تمثل الهوية الوطنية السعودية ركيزة أساسية في بناء الشخصية الثقافية والاجتماعية للأجيال، فهي الجذر الذي يغذي الانتماء ويعزز الولاء للوطن، وفي الوقت ذاته تتجدد باستمرار لتظل قادرة على مواكبة المتغيرات. ومن أبرز مظاهر هذا التجدد ما نشهده اليوم من تفاعل الأجيال الجديدة مع الفنون الشعبية التي تجاوزت حدود كونها موروثًا محفوظًا، لتصبح ميدانًا للإبداع المعاصر، يجمع بين الأصالة والحداثة ويعيد تعريف الانتماء الوطني بلغة يفهمها الشباب ويتفاعلون معها.
الفنون الشعبية السعودية مثل العرضة، والزجل، والحِلة، وما يرافقها من ألوان موسيقية وأدوات تراثية، لم تعد محصورة في مناسبات محددة أو بيئات تقليدية، بل وجدت طريقها إلى المنصات الفنية الحديثة، لتتحول إلى مادة بصرية وسمعية قادرة على مخاطبة ذائقة الجيل الرقمي. فحين يعاد تقديم العرضة في مناسبات وطنية كاليوم الوطني أو يوم التأسيس، بأزياء تقليدية ممزوجة بتقنيات إضاءة وصوت حديثة، فإنها تكتسب معنى مضاعفًا: فهي من جهة تؤكد عمق الانتماء للهوية، ومن جهة أخرى تعكس قدرة الثقافة الوطنية على التجديد ومواكبة روح العصر.
لقد أصبح واضحًا أن الأجيال الجديدة لا تنظر إلى التراث بوصفه مجرد ذكرى للماضي، بل كمنبع مستمر للإلهام. فالفنان الشاب الذي يوظف الألوان المحلية في تصميماته البصرية، أو الموسيقي الذي يمزج الإيقاعات الشعبية مع التوزيعات العصرية، لا يكتفي بإحياء التراث، بل يفسره ويعيد إنتاجه في إطار يلامس وجدان مجتمعه ويخاطب العالم بلغة فنية حديثة.
ومما يعزز هذا المسار، الدعم المؤسسي الذي توليه الدولة للبرامج الثقافية والفنية، من خلال وزارة الثقافة وهيئاتها المتخصصة، حيث تعمل على صون الموروث الشعبي وتطويره ليبقى حاضرًا في الفعاليات الوطنية والأنشطة العالمية. وهذا التوجه يعكس رؤية المملكة التي تضع الثقافة ضمن محركات التنمية، وتؤكد أن الحفاظ على الهوية لا يعني الانغلاق، بل الانفتاح بثقة على التجديد.
إن الفنون الشعبية حين تدخل في فضاء التجديد لا تفقد قيمتها الرمزية، بل تكتسب قدرة جديدة على التعبير عن هوية الوطن. فهي تذكّر الأجيال بتاريخهم، وتعزز ارتباطهم بالرموز الوطنية، وتمنحهم وسيلة للتعبير عن انتمائهم في المناسبات الجامعة التي توحد السعوديين بمختلف مناطقهم وثقافاتهم. وهنا تتجلى قيمة العرضة الوطنية على سبيل المثال، بوصفها مشهدًا جماعيًا يجسد الوحدة ويعبر عن الفخر بالانتماء، لكنها اليوم تتجلى أيضًا عبر تصميم بصري أو إنتاج موسيقي حديث يصل إلى جمهور أوسع.
لقد أثبت الشباب السعودي أنهم قادرون على حمل الراية الثقافية وتجديدها بوعي ومسؤولية، حيث لم يعد التراث بالنسبة لهم مجرد واجب اجتماعي، بل أصبح مشروعًا إبداعيًا يعبرون من خلاله عن شخصيتهم وهويتهم الوطنية. ومن خلال وسائل الإعلام الحديثة والمنصات الرقمية، تمكن هؤلاء الشباب من إيصال صوتهم إلى العالم، ليقدموا صورة متجددة للمملكة تجمع بين الأصالة والتطور.
إن الهوية السعودية، بما تحمله من قيم الولاء والانتماء والعزة، لا تتوقف عند حدود الماضي، بل تمتد إلى المستقبل من خلال الأجيال التي تستلهم تراثها لتبدع به وتجعله جزءًا من حياتها اليومية. وهكذا تصبح الفنون الشعبية المعاصرة أكثر من مجرد أداء فني؛ إنها جسر يربط بين الأجيال، ورسالة تؤكد أن الهوية السعودية قادرة على أن تتجدد دون أن تفقد أصالتها.
وبينما تحتفي المملكة بمناسباتها الوطنية، يظل حضور الفنون الشعبية المعاصرة شاهدًا على أن الانتماء للوطن لا يقتصر على الشعارات، بل يتجلى في الفعل الإبداعي الذي يعبر عن حب الأرض والفخر بالهوية، ويعكس الصورة الحضارية للسعودية في زمن يتطلب من الأمم أن توازن بين الجذور والآفاق.
مقالات سابقة للكاتب