الإنسانُ كائنٌ اجتماعيّ.
بهذا المفهوم هيمن على ثقافتنا إجماعٌ عامٌ، وضمني يرى أن السبيل إلى تحقيق الرضا وإيجاد المعنى في هذه الحياة لا يتأتى إلَّا من خلال علاقاتنا بالآخرين.
وقد شكَّلَ هذا المفهوم جوهر مدرسة التحليل النفسي، وتُدعى بنظرية العلاقات، حيث تتمثل احتياجات الإنسان الأساسية في بناء علاقات اجتماعية آمنة وبنَّاءة.
ولذلك افترضَ معظمُ أطباء الصحة النفسية وجود طريقة وحيدة لقياس كلٍّ من الصحة النفسية، ونضج الانفعالات، وتتمثل في مدى قدرة الفرد على بِناء علاقات آمنة، ولكنّ يمكن إضافة قدرة الفرد على احتواء العزلة أن تكون ضمن عوامل قياس الصحة النفسية كعنصرٍ أساسيٍّ يُعْتدُّ به، ولا يمكن إهماله بأي حالٍ من الأحوال، بل يأخذ نفس الحصة التي يأخذها العامل الأول من خلال إعلاء قيمة العزلة، وتعلُّم كيفية إتقان فَنّ العُزْلة.
فالعُزْلة لا تعني الوحدة، بل هي الوقت الذي تقضيه بمفردك بحكمة؛ للتفكير، والتدبُّر، والتبصُّر، والتأمُّل.
وليست العُزْلة المقصودة هي ما أفسدته ثقافتنا البائسة عندما ربطتها بالاكتئاب، أو الحالة النفسية السيئة، أو أنها في أفضل حالتها تكون -حسب تصوُّر هذه الثقافة- حالة انسحابية، تُشَكِّل منظومة دفاعية تنطوي على تَوقُّع الاضطهاد.
إن العزلة المقصودة هنا، ليست مجرد حالة من الوحدة، لكنها فن الوجود الكامل مع ذواتنا المتصل بخالقنا عزَّ وجل.
وبالتالي نجد أن عزلة اكتشاف الذات تغدو معيناً لكل معنى مُصَاغ يجعل الحياة تستحق العيش.
فهي فنٌ نستحوذ عليه مثلما نفعل مع كل فن، عبر التتلمذ والمثابرة المتفاني في إسهاب التفكير في النور الداخلي الذي يستمد شعاعه من الخالق سبحانه وتعالى.
فنحن من فوق صخرة العزلة على شاطئ الحياة، نرنو إلى تكاليف الوجود، ونمرن أعيننا؛ كي تُمّعِن النظر في مجال أوسع لكل ما يستعصي فهمه وتصديقه من حولنا.
فثَمَّةَ عزلة هائلة، مملؤة بالبكاء، فارغة من الدموع، تحفها أجنحة الخشوع والاستسلام لله تعالى، تستحضر التفكير،وتمنح صاحبها الفكرَ والإلهام، وليس باستطاعة كل إنسان احتمالها.
وإذا تم النظر إلى العُزْلة على أنها فن خالص؛ فهي تحتاج لمران ذهني؛ لصقلها واستقراراها في النفس.
فعندما تتمرن على العُزْلة؛ فأنت تُكَرِّس ذاتك للاعتناء بروحك.
إن المران التأمُّلي الذي نمارسه في العُزْلة يدربنا على القابلية لرؤية كل لحظة كفرصةٍ للبدء مرة أخرى، لتذوُّق الحياة كما تتأتى، بلا إصلاح، وأنها دائمة التقلُّب، مع إيماننا العميق باستمرارية القدرة على التغيير.
ولكي يكون المران التأمُّلي جزءاً من الحياة؛ يستدعي التفكر وتهذيب حساسية، إدراكنا لكليات وجودنا، الحساسية هذه تشتمل على سلسلة من المهارات، مثل، استشعار معية الله عزَّ وجل، اليقظة، الفضول المعرفي، الفهم، التماسك، التعاطف، الاتزان، الحضور الواعي، والتواضع.
ولذلك -وفق هذا المفهوم للعُزْلة- ليس من المستغرب أن يعتزل العظماء لفترة مهمة من الزمن، يبحثون فيها عن حكمةٍ عميقةٍ لها طابع الديمومة والأثر، وعندما يعثرون عليها؛ فإنهم حينها يعودون إلى مجتمعهم بقصد العطاء والمشاركة.
وحتى لا تكون العُزْلة عبثاً،وضرباً من ألوان الهروب من مواجهة الحياة، والانسحاب من ساحة أحداثها، ولكي تكون أوقات العزلة مفيدة؛ يجب أن تكون طوعية، وأن تحافظ على علاقات إيجابية، كما يجب أن يكون بإمكانك العودة إلى المجموعات الاجتماعية عند الرغبة، ولابد أيضاً أن تشعر بالرضا تجاه قضاء الوقت بمفردك.
وهنا يكمن لغز العزلة. أن تمعن النظر بشدة، وبما يكفي في نفسك معتزلاً، وفجأة في نفس الوقت سترى أنك تنظر لبقية الناس وهي تبادلك النظر، وتقاسمك الإنسانية.
فالعزلة تأخذك إلى نقطة التحول التي يعيدك فيها بندول ساعة الحياة المتذبذب إلى الآخرين، ولكن هذه المرة مُحمَّلاً بنفعٍ وفير، وخيرٍ كثير، وحكمةٍ بالغة، وبصيرةٍ نافذة مُسْتَقاه من منهجٍ رباني حين وثَّقْت صلتك بالله، وأفردته سبحانه وتعالى بالعبادة.
سليمان مُسْلِم البلادي
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي