بعض الكلمات تحمل بين حروفها جرحًا لا يُرى، لكنها تُشعر القلب بوخزٍ لا يزول بسهولة، إنها السقوط من أعلى درجات الثقة، حين يمدّ الإنسان يده ليمسك بها أحدهم، لكنه يفاجأ بأنه يسقط وحيدًا، بلا عذر، بلا سابق إنذار.
كلمة ذات أوجه لغوية ومعنوية وأدبية؛ فهي تارةً مصدر، وتارةً صفة، وتارةً إحساسٌ نابضٌ بالحزن والانكسار، وفي حالاتها جميعًا، تبقى كلمة ثقيلة، قاسية، كقسوة الحجارة، بل أشد قسوة، فإن من الحجارة ما يخرج منه الماء، أو تتكون بها الكهوف فتكون ملاذًا آمنًا من تقلبات الأجواء، ليبقى الخذلان فلا ماء فيه، ولا مأوى… فقط وجعٌ صامت.
الخذلان ليس مجرد إحساس عابر، بل هو تجربة متعددة الأبعاد، خذلان الأصدقاء حين تحتاج لمن ساندتهم يومًا، فتجدهم يختفون عند أهم المواقف، ومنه أيضاً خذلان الحب حين تتلاشى الوعود كأنها لم تكن، ويبقى القلب وحيدًا يواجه الحقيقة الموجعة.
وحدثني حديث الشروق عن خذلان العمل حين تعطي جهدك وإخلاصك، ثم يتم تجاهلك كأنك لم تكن شيئًا وفي عسعسة المساء يكون خذلان الذات حين تشعر بأنك خذلت نفسك بتصرف أو قرار لم يكن حكيمًا.
وما خذلان الأبناء لآبائهم ببعيد عندما يكبر الأبناء وينشغلون بحياتهم الخاصة، متناسين تضحيات والديهم، مما يترك الأب والأم في عزلة عاطفية ونفسية.
إن المجتمعات تُبنى على الثقة، وحينما يشيع الخذلان بين الأفراد، يضعف النسيج الاجتماعي وتقل روح التضامن، في بعض الثقافات يُنظر إلى الوفاء والالتزام بالعهد كقيم أساسية، بينما في ثقافات أخرى قد تُبرر بعض أشكال الخذلان تحت مسمى “الواقعية” أو “الاستقلالية”.
وواقع الحياة يؤكد أن تكرار الخذلان في العلاقات الفردية، ينعكس على البناء الاجتماعي بأكمله، فتتآكل الثقة، وتبرد العلاقات، ويصبح الناس أكثر تحفظًا في مشاعرهم والتزاماتهم.
فالخذلان موجع لأنه يهزّ أعمق ما في الإنسان وهو ثقته بنفسه وبالآخرين، نحن نبني علاقاتنا على أساس من الأمل والصدق، لكن عندما يهتز هذا الأساس، نشعر كأننا فقدنا جزءًا من ذواتنا، فالألم لا يأتي فقط من الفقد، بل من الشعور بأننا كنا نعيش وهمًا لم يكن حقيقيًا.
من الجهل بمتغيرات العصر إنكار الألم، فهو جزء طبيعي من التجربة لذا علينا تقبله والاعتراف به كمشاعر تمضي بنا نحو تجربة هي في جوهرها فرصة لإعادة النظر في الأشخاص والمواقف، وكن على أمل بأن ليس الجميع مخادعين، فهناك قلوب صادقة تستحق الفرصة.
الخذلان درس ثمين يضيف إلى نضجنا العاطفي والاجتماعي وهو مؤشر يؤكد على أن الوفاء ليس خيارًا بل التزام أخلاقي وإنساني.
الخذلان… رغم قسوته، يمكن أن يكون بداية لتحولات إيجابية، فقد يدفعنا إلى مراجعة اختياراتنا، وتحديد من يستحق أن يكون في دوائرنا القريبة، قد يكون درسًا مؤلمًا، لكنه بلا شك يمنحنا قوة لم نكن ندرك أننا نملكها.
لذلك حين تواجه الخذلان، لا تجعله نقطة ضعف، بل اجعله وقودًا يمنحك الحكمة في اختياراتك القادمة.
“أحيانًا نحتاج إلى الخذلان، لنعرف جيدًا من يستحق أن يكون معنا ليكمل المشوار.”
عبدالله عمر باوشخه
مقالات سابقة للكاتب