العقل بين صوت العصا وطَعم الجزرة

ليس كل ألم يُرى، فالأوجاع النفسية حين تُهمَل، تتحول إلى أعراض عضوية صامتة، فكم من جسدٍ أنهكته شكوى القولون أو اضطراب النبض أو نوبات الخمول، بينما أصل الألم كلمة لم تُقال، أومشاعر لم تجد طريقها للخروج.

المرض العضوي تُحركه التهابات الخلايا، أما المرض النفسي فقد تُشعله ذكريات، أو شعور بالذنب، أو خوف متراكم، وبين الصمت النفسي والانفجار الجسدي… تختبئ الحقيقة.

وسلسلة الفروقات واضحة مبنية على منطق حقيقي، ففي علم الإدارة هناك فروق جذرية بين صفات المدير وصفات القائد، وفي دورة الأيام واحتساب الزمن لا يختلف اثنان على الفرق بين الليل والنهار، والشمس والقمر، فلكلٍ دوره وصفاته.

حتى الجوار في الشرع لم يكن سواءً فهناك جار ذو قربى له حقان وجار جُنب له حق واحد، وفي علم التخطيط الاستراتيجي يختلف الهدف الحقيقي عن الهدف الأساسي في المضمون والدلالة، كما أن النجاح الظاهري الذي يقوم على المظهر والإنجازات المادية والرضا المؤقت، يختلف عن النجاح العميق القائم على الاتزان النفسي، والرضا، وانسجام الذات.

كذلك فالصوت المرتفع يُفرض بالقوة ليربك الطرف الآخر ويُسكت لا يُقنع، بينما الصوت العاقل يُحترم لحكمته ويُقنع بلا صخب.

وعلى هذا النهج، هناك فرق شاسع بين إدارة الانفعال والتحكم فيه، فإدارة الانفعال هي تطبيق لقوانين طبيعية في الرد على فعلٍ محدد، كما هو الحال في قانون الفيزياء “لكل فعل رد فعل”، أما الحكمة في الانفعال فتتطلب التريث، وضبط النفس بدرجة عالية، خشية الوقوع في محظورات النقاش.

النفس كونٌ يدور في فلكها المشاعر والرغبات بحثًا عن السعادة، وهذا المفهوم – الرفاه – يشمل كل الطرق التي يمكن للإنسان أن يكون فيها على ما يُرام، أو في أحسن حالاته المعيشية.

كثيرًا ما تحاول النفس أن تتحدث مع صاحبها بحثًا عن هذا الرفاه، لكن من اعتاد الهرب من المواجهة، يلجأ إلى أساليب الإلهاء بالألعاب الإلكترونية، أو الأكل المفرط، أو الانغماس في التسوق، أو الانشغال بالعالم الافتراضي، الذي – في كثير من الحالات – لا يتجاوز كونه تفاعلاً سطحيًا عبر صور رمزية مصطنعة.

هذا الهروب يجعل النفس في لحظة ما تشعر بالإحباط، لتبدأ مرحلة جديدة من التعبير عن ذاتها بالألم النفسي والتدرج في الاكتئاب، فيتحول ذلك إلى اضطرابات عضوية.

وقد عبّر عن هذا شين كوفي بقوله”إن المشاعر التي لا يتم التعبير عنها لا تموت، وإنما تُدفن حيّة، ثم تقوم بالتعبير عن نفسها بطريقة أشد قبحًا.”

وللخروج من هذه الدائرة المؤلمة، لا بد من تحكيم العقل، وتوسيع مساحات الأمان في الحوار، ومنح الآخرين فرصة التعبير عن ذواتهم دون خوف، وتقبّل بعضنا بوعي، من خلال حلول ترضي الجميع، لا طرفًا على حساب آخر.

إن شتات التصرف لا يأتي إلا من ضياع الحكمة، وغياب الأدب، وعنفوان شباب لم يُروّض، وعلى قارعة الطريق تنتهي حكايات كان يمكن أن تُكتب لها نهايات أجمل، لولا التسرع، ورعونة الانفعال، وتقلّباته المدمّرة.

عندما تتحدث العقول، تصمت ضوضاء العواطف، وعند عتبة المسؤولية تُفرز المشاعر المتفلتة ويُكشف سترها.

فالكلمات سهام لا تصيب الجسد، بل تخترق القلب، فتغرس في الوجدان كغصة يصعب نزعها، ومن رحم الألم تنفجر ردود الأفعال، لا لأنها فجّة، بل لأنها جاءت متأخرة، على إثر تراكم.

لسنا ضحايا كلماتنا فحسب، بل أسرى العناد والغرور الذي يتعدى الحروف إلى السلوك، والعلاقات لا تُبنى بالمكابرة، بل تنهض على أعمدة الوعي، وسقوف الحكمة، وجدران الاعتراف بالخطأ.

فالعلاقة الإنسانية بلا عقل ناضج صرحٌ مائل، وإن بدا راسخًا، والمكابرة فأس لا تطرق باب السعادة، بل تخلعه من جذوره.

وإن بقي في القلوب بقايا من سكينة أو حرص أو مودة، فلن تُثمر دون عقلٍ يعقل وقلبٍ يخشع ولسانٍ يعتذر، فالاعتراف بالخطأ ليس هزيمة، بل نُبل وإطفاء لفتنة قبل أن تستعر.

علمتنا التجارب أن لا خير في علاقة تقوم على المجاملات أو الإنكار، فالأيام لها كرامتها، والمكابرة لا تورث إلا الانكسار.

وفي غمار الحياة حيث تتصادم الطباع وتختلف وجهات النظر، لا بد من أن نتعلم فن “التأجيل الحكيم” للردود، و”الاختيار المدروس” للكلمات.

فكل انفعال غير مضبوط قد يهدم علاقة بُنيت على سنوات، وكل لحظة سكوت عن تجريح قد تكون سببًا في فتح باب إصلاح.

الحكمة لا تعني الصمت الدائم، بل تعني انتقاء اللحظة والعبارة، والقوة لا تكمن في رفع الصوت، بل في تهذيب الفكرة.

كم من خلافٍ انطفأ بعقلٍ راشد؟، وكم من علاقات نجت من الانهيار بموقف رشيد؟

إدارة الانفعالات ليست رفاهية نفسية، بل ضرورة وركيزة في بقاء العلاقات، إنها الفرق بين علاقة تُرمم، وأخرى تُهدم؛ بين علاقة تُروى بالحكمة وأخرى تُجفف بالمكابرة والعناد.

فلنمنح عقولنا فرصة القيادة، ولتكن قلوبنا حارسةً للخير والظنون الحسنة، لا حارقة لها وحين نخطئ – ونحن حتماً نخطئ – فليكن الاعتراف بداية الترميم، لا نهاية الكرامة.

فالاعتذار رفعة، وإن ظنه البعض ضعفًا، والسقوط الحقيقي في العناد، حيث يكمن الذل مستترًا بثوب الكبرياء.

هكذا يُدار الانفعال بالحكمة لا بالغضب، وبالعقل لا باللسان، فمن ملك نفسه عند الغضب، ملك قلب غيره عند الصفاء.

ولندرك حقيقة أن صوت العقل ليس الأعلى لكنه الأصدق في كل حالاته.

عبدالله عمر باوشخه

 

مقالات سابقة للكاتب

4 تعليق على “العقل بين صوت العصا وطَعم الجزرة

BAKHSH, TALAL ABDULLAH H.

هذا نبض الحكماء يظهر في كتاباتكم.
أحسنت وأبدعت دكتور عبدالله كتب الله أجركم وبارك لكم وعليكم فيما آتاكم.
دمتم بخير.

OMAR IBN ABDULLAH

نص عميق يمس جوهر النفس الإنسانية، يذكّرنا بأن الألم حين يُهمل لا يختفي، بل يتخفّى في الجسد، وأن الحكمة في الانفعال ليست ضعفًا بل وعيٌ يحفظ العلاقات. كلماتك دعوة راقية للصمت المتزن، والاعتذار النبيل، وقيادة العقل حين تعصف العاطفة

دمتم بصحة وعافية.

أحمد بن مهنا الصحفي - أم الجرم

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لايهدي لأحسنها إلا أنت …
شكرا لكم … هذا فكر راق .

Hesham Ameen Saif Alabbasi

مقال رائع وعميق، يعكس فهماً راقياً للعلاقة بين التحفيز النفسي والصحة الجسدية. الأسلوب السلس والمحتوى الثري يدفع القارئ للتأمل وإعادة النظر في مفاهيمه عن الألم والتحفيز. شكراً للكاتب على هذا الطرح المميز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *