اختبار الانسانية

في الطرقات ترى قصصًا، وفي أماكن عديدة تشاهد وتسمع عجبًا، فتتشكل أمامك حكايات لا تُروى في الكتب، وتجارب لا تُدركها الكلمات.

فكل مشهد يمر بك، وكل موقف تعايشه أو تشهده، يضيف إلى رصيدك من الفهم شيئًا لا يُشترى لتدرك أن الحياة في حقيقتها، ليست سوى نسيج من الأحداث والأخبار، والتفاصيل التي تتراكم يومًا بعد يوم…منها ما كنت فيه طرفًا، ومنها ما كنت فيه شاهدًا بصمت.

وتبدأ في داخلك أسئلة لا تنتهي، منها:

هل الحياة، بما فيها من علاقات وتعاملات بين البشر، وبين الإنسان وما يحيط به، صناعة لأنها تُبنى على المعرفة والتخصص والتقنية، ويعمل داخلها خليط من البشر لعمارتها وعمرانها، أم أنها تجارة في واقع لا يمكن إنكاره، حين تدخل الأرقام إلى تفاصيل اقتصاديات الناس والدول، وتتفاوت الخدمات بتفاوت الدخول.

والإجابة أنها كلّ ذلك… لكنها ليست كأي “كلّ”

وفي إحدى زوايا هذه الحياة، ترى أقوى صور الصبر والإيمان، صافية بلا رتوش، ولا تصنّع، حيث لا مكياج للمواقف، ولا أقنعة للعواطف، فقط القلوب على فطرتها، والدعوات على سجيتها، والوجوه كما هي خائفة، راجية، دامعة، مبتسمة، وربما… منصهرة في رجاءٍ صامت.

عند أسوارها…كل شيء يتهيأ للدخول في عالم مختلف من الوجود..

قلوبٌ مرتجفة خلف كل بوابة، وعيون ترقب الداخل والخارج وكأنها تعدّ الأرواح، سيارات متوقفة، لكن العقول تركض خلف خبر يطمئن، أو طبيب يحمل بشرى، أو اتصال يُنهي قلق الانتظار.

في المستشفيات ودور الرعاية الصحية تتساقط الفروقات، ويذوب الغريب في الغريب، فالألم يوحّد، والدعاء يجمع، والخوف يكشف كم نحن متشابهون حين نضع قلوبنا في كفّ الرجاء.

وفي غرفة العمليات، تُختصر الحياة في أنفاس معدودة، وقرارات محسوبة، ويد بشرية تمسك بخيط الأمل بين العلم والدعاء، ومريض في أضعف حالاته مُسجّى بين أدوات دقيقة وحدود فاصلة بين النجاة والغياب.

وطبيب يزن الخطأ بميزان الحياة، وممرضة تتحرك بخفة لا تُرى، لكنها تسهم في صناعة أعظم المعجزات، ووجدانها على أهبة التفاعل مع كل نبضة، ومساعدون يعملون في صمت، ينسجون من التفاصيل الصغيرة بطولات لا تُذكر، لكنها تحمي الأرواح من الغياب.

وخلف الباب المغلق…

يقف الانتظار وجهًا لوجه مع الرجاء، أم تتشبث بدعائها كأنها تمسك ابنها من طرف الغياب، وزوج يبتهل وقد ضاق به كل شيء إلا السماء، وزوجة تتقلب بين دمعة رجاء ونظرة خوف، لا تدري هل تستعد للقاء أم للفقد.

أطفال يسألون ولا يملكون جوابًا، فقط دموع صغيرة وأسئلة كبيرة لا يجيد الكبار الرد عليها، ووالدان يتعانقان في صمت، عناق لا يواري إلا الخوف، وحامل تُصارع ألم الولادة والمجهول، وعقيم تعلّق قلبها بحلم لم يُولد بعد.

المشفى بكل أشكاله ليس جدرانًا بيضاء وأجهزة صامتة فقط، بل مسرح تتقاطع فيه قصص الناس، من أطراف البلاد يأتون، لا يعرف بعضهم بعضًا، لكن يجمعهم ألم مشترك ومصير واحد، فيه من يفرح، ومن يودّع، من يهلّل للميلاد، ومن يهمس للرحيل.

مشاعر مختلطة تتدفق دون حواجز، ضحك خافت بجوار بكاء مرير، تهليل قرب أنين، قبول بجانب رفض، واحتضان يعقب صدمة، كل شيء هنا حقيقي، مكثّف، لا يحتاج إلى شرح… فقط تحتاج أن تكون إنسانًا لتفهم.

وهنا في هذا المكان الذي يتقاطع فيه الألم والرجاء، يصبح للدواء سعر، وللغرفة مستوى، وللخدمة تكلفة، لكنه رغم كل ذلك هو باب رحمة يُفتح حين تُغلق أبواب كثيرة، وطوق نجاة يُلقى في بحر الألم، وصوت رجاء في صمت الانتظار، وسجدة خفية خلف ستار أبيض، ومسرح للقلوب المؤمنة التي لا تملك من أمرها شيئًا إلا الدعاء.

وهو مرآة هذا العصر يعكس نُبل المهنة لمن أخلص، ويُظهر قسوة السوق لمن باع الشفاء بثمن، لكنه في جوهره سيبقى… مكانًا تقف فيه الحياة على قدم الرجاء، ويُختبر فيه الإنسان بأصدق ما فيه.

وفي عمق هذا المسرح الكبير، تكمن أدوات ووسائل، ليست مجرد أجهزة أو عقاقير، بل ثمار عقول سهرت، وقلوب آمنت برسالتها.

الأدوية، الأشعة، التحاليل… ليست مجرد أدوات طبية، بل أدوات أمل، ووسائط نجاة، عكف عليها علماء حملوا على عاتقهم أن يكون لهم دور في هذه القصص الإنسانية، أن يعبدوا دروب الرجاء بصور مختلفة.

هم لا يرون المرضى وجهاً لوجه، لكنهم يمدّون الأطباء بسلاح، ويمنحون المرضى فرصة للنجاة، إنه العلم حين يُسخّر للرحمة، والمعرفة حين تصبح جسرًا نحو الحياة.

في هذا المكان، نعلم يقينًا أن الإنسان لا يُقاس بما يملك، بل بما يصبر، وما يرجو، وما يشعر، ما بين أسوار الانتظار وباب العمليات، تُختبر الإنسانية في أصفى تجلياتها، حيث تنجلي القلوب من الزيف، وتبتهل الأرواح كما خُلقت نقية، متوسلة، مؤمنة.

وحين تغادر هذا المكان، لا تغادره كما دخلت، بل تحمل في قلبك سؤالًا لا يُنسى:

ما أعظم ما نملك؟

فتأتيك الإجابة خفيفة وعميقة:

نعمة الصحة في البدن، ونعمة السلامة من كل ألم، رؤية الحياة من مقاعد الانتظار تعيد ترتيب الأولويات، وتمنحنا فرصة لنحيا بوعي، ونُحسن لمن حولنا.

 ولأنها احدى النعم التي مغبون فيها كثير من الناس فلْنمنح الرحمة لكل من يعبر هذه الأروقة ذات يوم…فرب دعوة في وقت وجع، تُغيّر مصيرًا كاملاً.

عبدالله عمر باوشخه

 

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “اختبار الانسانية

أمل عطية

لحظة الألم هي الاختبار الحقيقي للإنسانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *