دهشة لا تنتهي

حين تنظر إليه تراه بُستانًا فريدًا، ليس من تراب، بل من ماء، تطفو فيه الأزهار في صورة قناديل شفّافة، وتتمايل الشعاب المرجانية كأنها ورود مزروعة في قاعٍ صامت، وتتراقص الأسماك الملوّنة كأنها ثمارٌ ناضجة تُقطف بالنظر لا باليد.

هو قرية حيّة، بل عالم مستقل، فيه الليل والنهار، والجمال والخطر، والغذاء والمأوى، والصمت والحياة في آنٍ معًا، سبحان من خلق فأبدع.

هيبة الأمواج تجعله أفق بلا نهاية، والأمواج تتهادى حينًا وتزمجر أحيانًا، كأنها تهمس تارة وتُنذر تارة أخرى، أما الزبد الأبيض فيتكسر على الصخور، لا بعنف وحده، بل بجمالٍ لا يُوصف.

فالبحر لا يُزار فقط بل يُعاش، ومن عاشه بصدق، ظل قلبه معلقًا بشواطئه، وأمواجه، وسكونه، وصخبه.

وأما الغوص فحكايات لا تنتهي، ليس مغامرة فحسب بل نزول إلى عوالم لا تُرى من اليابسة، هناك في القاع، تتجلى الحكمة الخفية في تنوع الخلق، وفي قدرة الله على بعث الحياة حيث لا شمس ولا هواء، إنه غموض مهيب، وعالم من الأسرار، ومثل لقدرة الخالق في أدق التفاصيل.

وفي أعماق المحيطات تستمر الدهشة، براكين تثور تحت الماء، تنفث نارها في الظلمة، فتخلق جبالًا جديدة في صمت رهيب، وزلازل بحرية قد تُولّد أمواجًا عاتية (تسونامي)، تغير وجه الشاطئ في لحظة، ومع ذلك يبقى البحر في هيبته منضبطًا بأمر ربه، لا يفيض ولا ينحسر إلا بإذن، ولا يثور إلا لحكمة.

وفي طرف أخر ترتفع المياه وتنحسر، كأن للبحر قلبًا ينبض، وشهيقًا وزفيرًا لا يتوقفان منذ خُلق الوجود، ليفسر لنا العلماء ظاهرة المد والجزر في ضبط الماء، رغم عنفوانه، فلو شاء الخالق لجعل البحر طوفانًا دائمًا، لكن لطفه جعل لكل مدّ حدًّا، ولكل جزر زمنًا.

أما التقاء النهر العذب بالبحر المالح، أو المحيط بالبحر، دون امتزاج فتلك أعجوبة تمشي أمام أعين الناس لكنها لا تُبصر إلا بالبصائر.

وللبحر وجهٌ آخر، لا يقل روعة ولا أثراً فهو طريقٌ للسفر، وممرٌ بين الأوطان، وجسرٌ ربط الشعوب منذ القِدم، عبره تنقّلت السفن من قارة إلى أخرى، فاستُكشفت الجُزر، ورُسمت الخرائط، وتعرّف الإنسان على حضارات لم يكن ليبلغها إلا عبر أمواجه فتبادلت الشعوب العلوم والبضائع ونشر الديانات.

ولولا مغامرة البحر، لما عرف العالم أستراليا أو الأمريكيتين ولا جزر المحيط الهادئ، كان البحر – ولا يزال – بوابة للمعرفة، لا يسلكها إلا أصحاب العزائم والقلوب التي لا تخشى التيه.

خاضه أعلام من التاريخ الذين أفنوا أعمارهم في أعالي البحار ومنهم فرناندو ماجلان أول من أبحر حول العالم ومات في رحلته، وكذلك كريستوفر كولومبوس الذي عبر المحيط الأطلسي فيما لُقب ابن ماجد البحار العربي الشهير بخبير الموانئ والتيارات البحرية في المحيط الهندي كما أٌعتبر جاك كوستو المستكشف الفرنسي بأنه أول من أدخل الغوص العلمي إلى العالم الحديث وكشف أسرار الأعماق بالكاميرا والعلم، هؤلاء وغيرهم لم يكن البحر لهم مجرد ممر، بل مصير وهوية، وعقيدة علم.

في البحر لا تجد رحلة بلا عواصف، كما أن الحياة بلا اختبارات لا تُنضج النفوس، فالعواصف تهزّ الفلك، وتربك البوصلة، لكنها تُهذّب الروح، وتعلّم الثقة والرجاء.

وفي عرض البحر، كتبت أحلام وآلام ووضعت في زجاجة وألقيت للمجهول، ليست رسائل الزجاج اتصالا بل صلة صامتة تطفو على الأمواج، تهمس أن الإنسان مهما بلغ من قوة، لا يزال يبحث عن أذن تسمعه، وعن مشاعر يعبر إليها حين تقرأه.

ويبقى البحر رغم كل ضجيجه أكبر كاتم للأسرار، فكم من سفينة غَرِقت ولم تُفصح، وكم من عاشق بكى على الشاطئ ومضى فاحتفظ البحر بدمعه وهمسه وسره، دون أن يفشي حرفًا، وما كل صمته إلا حُرمة لما فيه من ذكريات، وأحلام، وودائع.

وإذا أقبل الصيف أقبلت معه الروح الخفيفة، ودعت الأرض أبناءها وفي قلب هذا النداء يسطع البحر كأعظم وجهة، وأبهى مسرح للتأمل.. إنه آية.

أقسى أنواع الحرمان ليس حرمان المال أو الجاه، بل هو حرمان البصيرة من أن ترى، وحرمان القلب من أن يتفكر، والعقل من أن يلتقط الحكمة.

فلطفاً لا تمر على البحر مرور الغافلين، بل قف، تأمل، وافتح قلبك لما وراء الماء، وسبحان من جعل من الماء كل شيء حي، ومن التأمل طريقًا إلى الحياة.

عبدالله عمر باوشخه

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *