كيف تبني القصص وعينا، وتساهم في تشكيل مسيرتنا، وتكون كمصابيح للطريق… فكل قصة درس، وكل درس حياة.
القصص ليست مجرد أحداثٍ مضت، ولا مشاهد تُروى للترفيه، بل هي أحد أهم روافد الحكمة والخبرة المتراكمة للبشرية، تحمل بين سطورها خلاصة التجربة الإنسانية، بكل ما فيها من أمل وألم، من انكسار ونهوض، من تعثّر وصعود.
في كل قصة عبرة، وفي كل حكاية درسٌ لا يُقال بالتنظير، بل يُغرس في النفس عبر صورة، شخص، مسار وقد تكون قرار.
القصص تُعيننا على ألا نتوقف عند نقاط محددة من حياتنا، لأنها تفتح أمامنا احتمالات جديدة، وتُذكرنا أن ما نراه نهاية، قد يكون في تجارب الآخرين مجرد بداية، إنها التي تضيء لنا الطريق حين تبهت الرؤية، وتمنحنا القوة لمواصلة المسيرة حين تنهار العزائم.
لقد كانت القصص دائمًا سبيلًا لتوريث الحكمة، وإكمال الرسالة، وربط الحاضر بالماضي، والمستقبل بالأمل. ولهذا لم تخلُ الكتب السماوية من القصص، ولم تخلُ حياة العظماء من التأمل فيها.
الاعتقاد بأن القصص تُروى للتسلية فقط جور على حقيقتها، فهي كثيرًا ما تُروى لتثبيت القلوب، وإعادة الأمل إلى النفوس.
نحتاج إلى أن نسمع عن أولئك الذين عاشوا الألم والضيق، لكنهم لم يفقدوا يقينهم، فكان جزاؤهم أن تحققت أحلامهم، لأنهم لم يقبلوا الاستسلام لأي تعثر.
وفي عالمٍ يضجّ بالأصوات العابرة، تبقى القصص الخالدة هي الصوت الثابت، تذكّرنا أن اليقين كنز، وأننا حين نؤمن، نصبر، ونعمل… فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
فتشبّث بقصتك، مهما كانت بدايتها وازرع فيها نورًا من يقين، فلعلها تُروى يومًا وتكون قصة إلهام لغيرك.
هناك من الأحداث ما كان ومضات شكلت مستقبل أمة، والأحداث في أصلها قصص، أليس من الأمم من تُقاس تواريخها بأحداثٍ كبرى؟، والتواريخ بدورها تُبنى على قصص خالدة.
بل إن شعائر دينية عظيمة، ما هي إلا إحياء عملي لقصص إيمانية كبرى راسخة في الوجدان البشري، ومغروسة في ضمير التاريخ.
يظن البعض أن تغير الزمان وتطور الوسائل يجعل القصص القديمة غير ذات صلة… لكن ذلك ظنّ سطحي، فالسنن لا تتغير، والإنسان هو الإنسان، وإن تغيرت أجهزته.
الصبر يبقى صبرًا، ولو في عصر السرعة، والثبات على المبدأ يبقى شرفًا، ولو في وجه التحديات، وما الغرور، والطمع، والارتباك إلاّ طباع تتكرر بأقنعة جديدة.
من وُهب البصيرة، لا يسأل: هل تنفعني القصة؟ بل يسأل: أين أنا منها؟، تلك هي الحكمة… ألا تمرّ بك القصص مرور العابرين، بل لتتأمل فتصحّح وتمضي أثقل وعيًا وأعمق أثرًا.
فهناك قصص لا تنطفئ ومنها قصة يوسف عليه السلام فهي ليست حكاية تُروى، بل منهج حياة في الصبر، الصمود، العفة والتخطيط البعيد.
من الجب إلى القصر، ومن القصر إلى السجن، ومن السجن إلى خزائن الأرض…كل محطة كانت تختبر قلبه، وتُزكي نفسه.
رأى رؤيا عجيبة صغيرًا، ولم تتحقق إلا بعد سنوات من الفقد، والسجن، والنسيان، لكنها تحققت لأن الأحلام الصادقة لا تموت، حتى إن طال الزمن.
لن أسرد لك القصص، فهي بالألوف، لكنها جميعها تدور حول محاور ثابتة كالصبر، الثبات، الكرامة والعزيمة، قصص لأناس انتقلوا من الهامش إلى الصدارة، من الألم إلى الإنجاز، من الضعف إلى التأثير.
القصص تضيف إلى عمرك أعمارًا، وإلى بصيرتك بصائر، وتمنحك رؤى لم تدفع ثمنها من وجعك، بل من تأملك.
قراءة القصص بتدبر وسماعها بنيّة الاعتبار، علامة من علامات النضج هي ليست ترفًا فكريًا، بل منهج تفكير، وخارطة نضوج، وأداة وعي.
حين تقرأ القصص، فأنت لا تجمع حكايات… بل تصنع لنفسك حكمة، ومعرفة، وبعد نظر تُنقّي ذهنك من التسرع، وتُكسبه صفاءً وفطنة، تتعلم كيف تدير الأحداث، وتفهم التفاصيل، وتُتقن المكر المحمود، والرقي في التعامل مع المواقف.
القصص تُعلّمك ألا تُفاجَأ بما يفعله الناس، وأن تستعد لما قد يأتي، لا بردّ الفعل، بل بثبات العقل ونُبل السلوك ورجاحة القرار.
ومن ذلك فإن طلب العلم ليس مجرد سعي خلف الشهادات، بل هو رحلة ذات ملامح خاصة صبر، انكسارات، ليالٍ بيض، وتحديات تُحفر في الذاكرة.
هو قصة تُروى لاحقًا، لجيل قادم لم يشهد البداية، لكنه سيتأثر بنتائجك، كل من ارتقى في مدارج العلم، لا بد أن يحمل في ذاكرته ليلة أرق، ودمعة إخفاق، وابتسامة إنجاز.
حين تشتدّ العواصف.. اقرأ قصة.
حين تضيق بك السبل.. اقرأ قصة.
حين يداهمك اليأس، تذكّر أن من سبقك قد مرّ من هنا…لكنه صبر، فارتقى، وصنع أثرًا، اقرأ القصص… لا لتتسلّى، بل لتتعلّم، لا لتنبهر، بل لتكون أنت يومًا… قصة تُروى.
عبدالله عمر باوشخه
مقالات سابقة للكاتب