حين يفكر الذكاء الاصطناعي عنا… هل نفقد أنفسنا ونحن نستثمر الوقت؟
تتنامى التحولات التقنية التي تجتاح العالم، وتتسابق الشركات إلى توظيف أدواته ظنًا منها أن التأخر لحظة واحدة يعني خسارة جواد المنافسة.
وفي خضم هذا السباق المحموم، يبرز سؤال لم يعد من الترف طرحه (ماذا كسبنا منه؟ وماذا خسرنا معه أو بسببه؟).
سؤالان ليسا على طرفي نقيض، بل هما وجهان لعملة واحدة، أو بلغة أدق (طرفا الميزان الذي يحاول العالم جاهدًا أن يحافظ على اتزانه وسط عاصفة التغيير) ذلك التغيير الذي أصبح المفهوم الثابت الوحيد في الحياة.
إنه إطار واقعي لا يمكن تجاهله، ففي عام 2023 أطلقت كبرى شركات التقنية أدوات ذكاء اصطناعي قادرة على كتابة التقارير، تحرير الصور، ترجمة اللغات وحتى محاورة البشر.
تزامن ذلك مع تقارير دولية تشير إلى أن ما يقرب من 300 مليون وظيفة حول العالم قد تتأثر جزئيًا أو كليًا بهذه الأدوات خلال العقد القادم.
إنها ليست مجرد تكهنات، بل إشارات واضحة إلى واقع جديد يتبلور، ويفرض علينا إعادة التفكير في مفاهيم العمل والتعليم، ومراجعة هويتنا الثقافية والاجتماعية، والتعامل بجدية مع متطلبات سوق العمل المتغيّر، بل وتقييم مدى قدرتنا – نحن البشر – على مواكبة هذه الطفرة التقنية، لا الاكتفاء بمحاكاتها.
معه حققنا مكاسب لا يمكن إنكارها بل ربما لم يشهد التاريخ البشري اختصارًا للوقت والجهد كما شهده مع الذكاء الاصطناعي، فما كان يستغرق شهورًا من البحث والتحليل، يُنجز اليوم في دقائق معدودة.
المعامل الطبية أصبحت أكثر دقة، والقرارات الإدارية أكثر رشادة، والمدن باتت تقترب من مفهوم “المدينة الذكية”، والتعليم توسّع في أدواته وأساليبه، فيما بدا الابتكار التقني في ذروته.
لم يتوقف الذكاء الاصطناعي عند كونه مساعدًا، بل أصبح شريكًا في التفكير وصانعًا للحلول، وبات الإنسان أكثر قدرة على التفرغ لما هو أعمق كالتفكير الإبداعي، التخطيط واستيعاب التعقيد.
ومن جهة أخرى، بدأت الخسائر تتسلل في صمت، لتذكّرنا بأن لكل ضوء ظلًا، وأن للذكاء الاصطناعي تكلفة خفية لا تُرى بسهولة، فعلى سبيل المثال تصاعد القلق الوظيفي مع اختفاء عدد من الوظائف، وظهور شعور متنامٍ لدى كثير من الموظفين بأنهم غير مرئيين في ظل كفاءة الخوارزميات، وفي الوقت ذاته تراجعت المهارات الأساسية كالكتابة اليدوية، والحساب الذهني، والحفظ، والتركيز، حتى باتت مهددة بالزوال.
وحقيقة الأمر أن الانبهار التقني بدأ يعطل التفكير النقدي، فاكتفينا بما تقترحه الخوارزميات وأهملنا ملكة السؤال، وظهرت فجوة معرفية متسعة بين من يمتلكون أدوات الذكاء الاصطناعي، ومن لا يملكون حتى القدرة على الاتصال بها.
أصبح خلف كل خوارزمية تتعلم، موظف يخشى الاستغناء وخلف كل روبوت ذكي، قلب بشري يتساءل بصمت هل ما زلتُ نافعًا في هذا العالم الجديد؟
ولتستمر الأسئلة المصيرية في فرض نفسها ومنها (هل ما زلنا نتحكم في الذكاء الاصطناعي؟ أم بدأ هو بالتحكم فينا؟، هل تُدار هذه المعرفة بأخلاقيات مسؤولة؟ أم بمنطق السوق والربح فقط؟، من يضع حدود الاستخدام؟ ومن يراقب النتائج؟، وماذا عن أولئك الذين يقفون على الهامش، لا يملكون أدوات السباق، ولا حتى فرصة البداية؟)
لا بد من الاتجاه نحو توازنٍ حقيقي، ورؤى واضحة، وحلول واقعية؛ فإيجاد هذا التوازن ليس أمرًا بسيطًا، لكنه ضرورة ملحّة، حتى لا تنزلق الأجيال إلى مزيد من التبعية المعرفية وفقدان السيطرة.
ومن أبرز ما يمكن أن يُسهم في تحقيق هذا التوازن – وبصورة عاجلة – هو إعادة بناء التعليم ليُصبح فهم الذكاء الاصطناعي جزءًا من بنية التعلّم الأساسية، لا مجرد أداة تقنية هامشية في منهجٍ فرعي.
كما تبرز أهمية إعادة تعريف الذكاء البشري من خلال إحياء مهارات الفهم، التأمل، ربط المعاني وتمكين الإنسان من قراءة الواقع بعيدًا عن الاعتماد الكامل على “العقل الصناعي”.
ويُعد حماية الوظائف من خلال التهيئة لا المنع خطوة أساسية عبر تأهيل العاملين للتحوّل إلى أدوار جديدة، وتدريبهم على مهارات لا يمكن للآلة أن تنافسهم فيها، وهو واقع يمكن أن يبعث الأمل ويعيد تشكيل سوق العمل بمرونة أكبر.
كما أن سنّ تشريعات ضابطة لاستخدام الذكاء الاصطناعي من شأنه أن يضمن بقاء التقنية في خدمة الإنسان لا على حسابه، ويمنع فوضى التطبيقات وخروجها عن الضوابط الأخلاقية.
فنحن لا نخشى الذكاء الاصطناعي لأنه ذكي، بل نخشى أن يُدار بلا بصيرة، وأن يتحوّل من أداة مساعدة إلى أداة تحكُّم بلا رادع.
فلنكن على يقين بأن الذكاء الاصطناعي ليس شرًّا في ذاته، لكنه لا يحمل خيرًا إلا إذا وُجّه بخير، وإن أردنا أن نكسبه، فعلينا أولًا أن نكسب وعينا به، ونُحسن توجيهه، قبل أن يُعيد تشكيلنا على نحوٍ لا نحبّه ولا نختاره.
(ويبقى السؤال الأهم) هل نملك الشجاعة لنضع الإنسان في قلب الذكاء الاصطناعي، لا على هامشه؟
تلك أمانة بعثت بها الأجيال القادمة، لنحفظ لهم إنسانيتهم، ونقيهم من أمية لا تتعلق بالحروف، ولا بالقراءة أو الكتابة، بل بالقدرة على التعامل مع أبسط أدوات الحياة… دون اعتماد كامل على ما لا يُبنى بالعقل وحده، ودون وساطة آلة أو صناعة.
عبدالله عمر باوشخه
مقالات سابقة للكاتب