(*) في رثاء الزميل الصديق الأديب والمثثف
الأستاذ عبد العزيز أحمد قزان (يرحمه الله).
(1) الموت حق علينا قد عرفناه
في كل حين ينادينا .. فتلقـــــاه
*****
يختار من كانـت الأرواح منــزلهم
وما جزعنـــا .. لأن الــــراحم الله
رحم الله فقيدنا الأستاذ الأديب / المثقف عبد العزيز بن أحمد قزان الذي احتضنته أخيراً مقابر السيدة حواء بحي العمارية في جدة، بعد وفاته مساء السبت 1446/12/18هـ ودفن صباح الأحد 1446/12/19هـ بعد الصلاة عليه فجر هذا اليوم في مسجد الملك عبد العزيز بباب مكة !!
# # #
(2) عرفت جدة منذ العام 1397/1396هـ عندما تعينت معلماً في إحدى مدارسها.. ومنذ ذلك العام أصبحت جُدِّياً معيشة وسكناً ثم زواجاً وذرية، ثم حياة أدب وثقافة وحضارة.
عرفت جدة وعشت مراحل تطويرها وامتدادها خارج السور العتيق، وعرفت أحياءها وشوارعها وطرقها عرفت جامعاتها ومدارسها وعرفت معالمها الحضارية كورنيشها ومطارها، مساجدها وحدائقها .. وكل جميل و (……) فيها !! حتى أنني أنشدتها كثيراً من القصائد والأشعار ومنها قصيدتي المعلقة الجدية) وجاء فيها:
أهواك يا جدتي بحراً ويابسة
ففيك من زمن عُرسٌ لأولادي
*****
فمن (رويس) إلى (الحمراء) نبض هوىً
وفي قرياتها عانقت أجدادي
*****
وعند (باب شريف) مزنة هطلت
فسال منها النَّدى زاداً على زاد
*****
الله يا غادة حسناء همت بها
في حبها صرت موثوقاً بأصفاد
*****
عبد العزيز كساها ثوب عزتها
وآله طوروا ما فيه إسعادي
*****
أهواك يا جدتي يا نبض قافيتي
أهواك با غرد القمري في الوادي
*****
إني عزفت الهوى في حب فاتنتي
لا المال يغري .. ولكن حبها زادي”
ورغم كل ذلك لم أعرف المسجد الذي صلينا فيه صلاة الصبح/ فجر يوم الأحد 1446/5/19هـ والمشاركة في الصلاة على جنازة أخينا عبد العزيز قزان (يرحمه الله)، إنه مسجد الملك عبد العزيز في باب مكة/ حي العمارية الذي تم تجديده وترميمه مؤخراً ليتحول إلى تحفة معمارية تحمل اسم موحد المملكة العربية السعودية وباني حضارتها وتطورها يرحمه الله، ذو المئذنتين اللتين يبلغ ارتفاع كل منهما (51 متراً) وذو الجدار القبلي الذي تزينه الفسيفساء المغربية ذات اللون السماوي المائل للزرقة في تناسق جمالي آسر، تضفي عليه الثريات الكهربائية إضافة مريحة للعين وجالبة للخشوع والسكينة، و (محراب) يحمل قدسية لافتة، وجماليات معمارية أشبه ما يكون بالمحاريب التي نشاهدها في مساجد القاهرة وبغداد وإسطنبول الشهيرة حيث يحتل المنطقة الوسطى من جدار القبلة وعلى ارتفاع الجدار القبلي وبزخرفات إسلامية فاتنة ومثيرة وفق تصميمات هندسية رائعة.
هنا في هذه الأجواء الدينية والروحية المفعمة بمشاعر الفقد والحزن والألم، استقبلنا النعش الذي يحمل جثمان الصديق الزميل عبد العزيز قزان (يرحمه الله)، وأدينا عليه الصلاة وقابلنا جمعاً من أهله وأولاده ودعونا له بالرحمة والمغفرة !!
# # #
(3) عبده قزان (قديماً) هو عبد العزيز قزان (حالياً) ، عرفته في تعليم جدة معلماً للغة العربية، ثم مشرفاً تربوياً، وعرفته في النادي الأدبي مثقفاً وأديباً وإدارياً وعضواً في مجلس إدارته المنتخب / مسؤولاً عن الشؤون الإدارية والمالية.
رجل فيه من دماثة الخلق، وجمال الروح، وبياض الباطن، ما يشدك إليه إنسانياً وأخوياً وحميمية. يفجؤك بثقافاته المتعددة، وأطروحاته الفكرية والأدبية. تدخل عليه المكتب في النادي فتجده محاصراً بالكتب والدوريات بشكل فوضوي !! ولكنها الفوضوية الخلاقة/ المبدعة، يفتيك في أي مسألة ثقافية برؤية وعلم وأسلوب عفوي مبين فهو المختص في اللغة العربية وآدابها.
تتلمذت على يديه ومعلوماته النحوية الثرية في أهم أبواب النحو وأكثرها انغلاقاً على ذاكرتي اللغوية النحوية وهو باب (التمييز العددي) أو (العدُّ والمعدُود) وأحكامهما النحوية، وأعطاني فيها زبدة مختصرة لازالت عالقة في ذهني وأعود إليها كلما احتجت إليها كتابة أو حديثاً مرتجلاً، فتذكرني بالمعلم عبد العزيز قزان (يرحمه الله).
ولا يخل الأمر من نسيان أو تغافل فإذا حزبني الأمر كاتبته وراسلته مستفسراً، وربما أزعجته هاتفياً ليرد عليَّ بأستاذيته المعهودة فيحل ما أشكل على بابتسامة هاتفية تسعدني وتبهجه (يرحمه الله) !!
حدثني -ذات مرة- عن الشاعر السوداني المتهم بالجنون إدريس جماع والأسطرة حول شعره وشاعريته، حديث المعجب/ المحب. وكأني به وهو بعزي (أناه) التي تتمثل بما عاشه الشاعر السوداني إدريس جماع من غربة وعدم تقدير في مجتمعه الشاعر، ومجتمعه المثقف فاختار العزلة والبعد عن الناس متهماً بالجنون. بينما هي في واقع الحال (عبقرية) غير مقدرة عند كثير من المجايلين.
عبد العزيز قزان أديب ومثقف لم يُخْرج لنا كنوزه المخبوءة وجاء الموت ليغيب عنا وجهاً أدبياً ومثقفاً نوعياً وقارئاً متميزاً (يرحمه الله)، ويدل على ذلك برامجه وصوته الإعلامي في إذاعتنا السعودية والتلفزة المرئية، فهو صوت إعلامي بارز ورقيق يمنحك بهجة سمعية ونفسية عندما يتحدث في قضايا المجتمع وأحوال الناس أو ينقل لنا الصلوات والأعياد من حرم الله الشريف بمكة المكرمة.
و (عبد العزيز قزان) الوجه الإداري المألوف في نادينا/ نادي جدة الأدبي، فمكتبه ملتقى للمثقفين، وبوابة للفكر والتثاقف لا ندخل النادي إلا من بوابته الإدارية والمالية/ البوابة الثقافية/ والكتب والمجلات المتناثرة فوق مكتبه ولا تجد مكاناً للجلوس إلا بينها ومعها في فوفوضية خلاقة !! (كما قلت قبل قليل) نلفاه حاضراً ومشاركاً في ملتقيات عبقر الشعرية، ولقاءات جماعة السرد القصصية ومنتدديات النادي الثقافية، ومشاكسات المدرسة النقدية (يوم كانت تعقد في رحاب النادي) وملتقيات قراءة النص السنوية. كما نجده في فعاليات اللجان الثقافية خارج جدة في خليص والعرضيات والقنفذة، فقد خلفني في الإشراف عليها بعد أن وفقني الله – وأصبحت عضواً في مجلس إدارة النادي في الفترة ما بين 1427هـ 1432هـ الموافق 2006م – 2011م ومشرفاً عليها طوال هذه المدة (الخماسية) !!
# # #
(4) وهكذا هي الأيام تجمِّع وتفرِّق، ولا يدوم إلا وجه الله سبحانه. بالأمس كان عبد العزيز قزان ملء السمع والبصر، نراه في المناشط الثقافية، ونسمعه في القنوات الإذاعية، ونراسله عبر الوسائل التواصلية.. وكان الحفيُّ بنا والأنيس لنا، والحريص على لقاءاتنا واجتماعاتنا. ولكن سرعان ما تكالبت عليه الظروف الصحيَّة، فأبعده المرض عنا وسألنا عنه فقيل إنه بين المشفى والبيت، وحاولنا زيارته فحالت بيننا وبينه مشاغل الدنيا وظروفه الصحية واعتذارات أهل بيته عن صعوبة الزيارة!!
وما هي إلا أيام ونحضر فعالية شعرية في نادي جدة الأدبي حيث جماعة عبقر الشعرية تقيم منشطاً نقدياً وشعرياً وشرفت أن أكون ضيفه المتحدث نقداً وشعراً وذلك مساء الثلاثاء 1446/11/1هـ = 2025/4/29م، وهناك التقيت الأخ الأستاذ عبد الرحمن الحجيري سكرتير النادي الأدبي، وتحادثنا في شأن الأخ عبد العزيز قزان فأخبرني أنه نقل إلى مستشفى الملك فهد وأن صحته تتماثل للشفاء وأنه يستقبل الزوار. فحمدنا الله وأرسل لي رسالة جوالية (مساء يوم الثلاثاء 1446/11/15هـ) تحمل رقم الغرفة ومواعيد الزيارة، وتمكنت في اليوم التالي من زيارته والتحدث إليه وكان في صحة جيدة وقد عرفني وشكرني على الزيارة وتجاذبنا أطراف الأدب والثقافة والتقيت ابنه (يزن) حفظه الله وتعرفت عليه وخرجت من عنده مطمئناً أن صحته في تحسن والحمد لله.
وفي مساء الجمعة 1446/12/17هـ كنا في زيارة لأحد زملائنا السابقين في ثانوية جرير ، فجاء الحديث عن التربويين والمشرفين فأخبرنا أحد الزملاء أن عبد العزيز قزان في المشفى وحالته الصحية ليست مطمئنة للأسف الشديد، فاستغربت ذلك وقلت له إنني زرته قريباً وكان في صحة جيدة !! ولكن يبدو أنه انتكس صحياً وحانت الساعة الربانية فلا حول ولا قوة إلا بالله.
# # #
(5) وجاء صباح الأحد 1446/12/19هـ، ومع تباشير صلاة الفجر كنا في جامع الملك عبد العزيز في باب مكة حي العمارية بجدة، لنشارك في صلاة الجنازة ثم نلتقيه في مقبرة أمنا حواء لنشارك في الدفن والوداع بالدعاء وعزاء الأهل والأبناء.. وهناك لاحظت جموع المشيعين من أقاربه وزملائه ومحبيه فوجدت الإعلام السعودي ممثلاً في المذيع الأنيق خالد البيتي والمذيع القدير سعد زهير الشمراني، ووجدت التعليم بجدة ورموزه ممثلاً في الأستاذ مسدف الحازمي وأحمد العقبي ومحمد الظاهري ووجدت النادي الأدبي ممثلاً في الدكتور عبد الرحمن السلمي وعبد الرحمن الحجيري، ووجدت آخرين كلهم محبون للفقيد ومتألمون لفقده وموته (يرحمه الله).
وما إن خرجت من المقبرة والعودة إلى الدار في حي النعيم، وفتحت وسائل التواصل الاجتماعي والصحف الإلكترونية حتى رأيت محبة الناس للفقيد تتجلى في الكلمات والمنشورات التي تتحدث عن مسيرة الأستاذ عبد العزيز قزان يرحمه الله وعن أخلاقه ونبله، عن إخلاصه وتفانيه، عن ثقافته ووطنيته، وعن الفضاءات الإعلامية التي كان أحد نجومها (يرحمه الله) والناس – كما يقال – شهود الله في أرضه، ولا يجمعون على أمر إلا ويكون صدقاً وحقاً!!
يقول عنه صالح الخزمري (تربوي وإعلامي وصحفي): “فقدنا صوتاً إذاعياً ومثقفاً ضليعاً في علم النحو . صاحب خلق رفيع وثقافة واسعة”.
وقال عنه الدكتور علي الرباعي (المحرر الثقافي في عكاظ): “الراحل قضى خلف المايكرفون أكثر من أربعة عقود وقدم وأعد البرامج الإذاعية …”.
وقال محمد آل صبيح (مدير جمعية الثقافة والفنون بجدة): “… عاش حياته مخلصاً للثقافة والأدب وترك بصمة لا تنسى في قلوب كل من عرفه”.
وقال عنه (المذيع اللامع المتقاعد) عدنان صعيدي: “كان مولعاً بالكتاب والقراءة ولعل الظروف الصحية لم تمكنه من التأليف فحصيلته كبيرة جداً …”.
وقال عنه عبد العزيز عسيري (المسرحي وعضو نادي الطائف الأدبي): “مات” الطيب الأديب والإعلامي الأكثر نبلاً.. اللهم ارحمه واعف عنه”.
وقال عنه سعد زهير (الشاعر والإعلامي): “كان أحد أنبل وأجمل من أدهشني بمخزونه المعرفي وثقافته وحسن تعامله وتواضع الكبار، معروف بصوته، ولغته الإذاعية الأنيقة وفلسفته الخاصة في تقديم البرامج”.
وقال عنه حسين بافقيه (المثقف والناقد الأديب): “كان مذيعاً لامعاً عاشقاً للغة العربية والشعر العربي…”.
ومن كل هذا تتضح قيمة الإنسان بعد وفاته، وتظهر ملامح إنسانيته ومعطياتها، وتتجلى الصور التي كانت غائبة/ متوارية في النفوس فتظهرها للوجود حقائق الموت والمصير الدنيوي الأخير .. فاللهم اختم لنا بالصالحات والذكر الطيب قبل وبعد الممات.
# # #
(6) وختاماً: أقول لذوي الفقيد (زوجة وأولاداً، وإخواناً وقرابة) تذكروا وسجلوا أن هذا اليوم 15 يونيو 2025م = 1446/12/19هـ كان يوم الأب العالمي، وفيه اختار الله أبوكم إلى جواره فطيبوا نفساً، واطمأنوا قلوباً، فـ/ عبد العزيز في جوار رب رحيم غفور كريم .. والناس شهود الله في أرضه، وأكثروا من لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون) !!
وفي هذا المقام الرثائي، والوداع الكتابي لا أجد أجمل من هذه المقولة والقصيدة الشاعرنا الشاب الأستاذ حمد جويبر الحربي، عضو جماعة عبقر الشعرية حفظه الله، يقول نثراً:
“صوتك الروحي يسكننا/ يلامس آذان العمر وجداً وراء وجد، ولن يعبر بعيداً … سيظل أبجدية سماء تعبر أرض الفصحى ويكبر بنا فيها ..”
ويقول شعراً:
“رحلت فانطفأ الإلقاء وانكسرا
وكنت أول صوت يسكن المطرا
*****
يا من تعلمنا في الشوق منزلة
حتى يصير بها الإحساس مقتدرا
*****
يا من يذيع لنا الأحلام فاكتملت
به الدروب فعادت تشبه القمرا
*****
باق وجودك لم تُخْفَ معالمه
فلحن صوتك أحيا للمدى أثرا”
رحم الله زميلنا وفقيدنا عبد العزيز وأسكنه فسيح الجنان وأنزله مع الصديقين والشهداء في الفردوس الأعلى.
والحمد لله رب العالمين.
جدة يوم الأحد 1446/12/19هـ


مقالات سابقة للكاتب