الصفقة

“حين أصبح الودُّ مجرّد إشعار، والصديق خوارزمية، والعزلة خيارًا دافئًا في زمن التواصل المؤجَّل …لعلنا في هذه المقالة نرسم ملامح تغيّر الصبغة النفسية للعلاقات، وتحول الصداقة من عهدٍ روحي صادق إلى نقرةٍ عابرة على شاشة.”

في الأصل، كانت الصداقة صبغة تميز القلب لا الواجهة، ومثلما تؤثر الصبغة في لون المادة وتغير مظهرها، فإن الصداقة تؤثر في النفس والوجدان، تمنح الإنسان هيئة خاصة، وتكسبه ألوانًا لا تُرى إلا ببصيرة الود، الوفاء، الطمأنينة والانتماء.

وكما أن الأحمر والأصفر والأزرق هي الألوان الأساسية التي تُنتج سائر الألوان، فإن الصداقة في أصلها تتكون من عناصر أولية كالمودة، الثقة والنصيحة، فإذا تمازجت بنسب متزنة، منحت النفس كل أطياف الطمأنينة، وإن فسدت أو طغى عليها لون المصلحة، صار مآلها إلى سواد الروح، كما يُفضي اختلاط الصبغات إلى لون باهت أو قاتم.

وفي الأثر قيل “المرء على دين خليله”، فالصديق ليس مجرد رفيق طريق، بل صبغة نفس، يُؤثّر ويَتأثّر.

كانت الصداقة عهدًا خفيًا بين الأرواح، تنشأ بعفوية، وتكبر بالمواقف، وتُروى من نبع المودة والوفاء، لم تكن تُقاس بالعطاء المادي، ولا تُقيّد بانتظار المقابل، بل كانت صلةً خالصة، يُؤنس بها، ويُستند إليها وقت الحاجة، وتُحفظ كما تُحفظ الأمانات.

وكان الصديق آنذاك أقرب إلى مرآةٍ صافية، يرى فيها الإنسان نفسه، ويكتم سره كما لو كان يحمل شيئًا من قلبه.

وعن الصداقة قال أرسطو ذات يوم “الصديق هو روح واحدة تسكن في جسدين”، لا تُفرّقه الأيام، ولا تنكسر مودّته بزلة.

فيما أشار الرافعي بصراحته المعهودة “الناس لا يعرفون معنى الصداقة إلا إذا جربوا الغدر.”

وفي كتابه (وحي القلم) ذكر مصطفى صادق الرافعي جملة اختزل فيها الصداقة بدقة متناهية حينما قال “ما الصداقة إلا صدقٌ في الشعور، ووفاءٌ في السّرّ، ويدٌ تسبق لرفعك حين تميل.”

وكان الصمت بين الأصدقاء أحيانًا أبلغ من الكلام، والغياب لا يُفسَّر بسوء ظن، بل يُحمل على عذر المحبة.

غير أن شيئًا ما تغيّر…!

في زمن التواصل الاجتماعي والعلاقات السريعة، انقلب ميزان القرب، وتبدّلت معايير الصداقة، صار عدد المتابعين يُربك مفهوم الصحبة، والإعجابات توهِم بالاهتمام، والإيموجي يُقدَّم بديلاً عن دفء الكلمة، وصدق النظرة وحرارة اللقاء.

صداقة العصر أصبحت في كثير من مظاهرها مشروطة، بل تجارية بحتة، تُدار بعقلية ما المنفعة؟ ما العائد؟ وهل يستحق البقاء في دائرة الاهتمام؟

وبات من الطبيعي أن تنهار علاقات بأكملها إذا لم تعد مفيدة لأحد الطرفين، واضحت الصداقة هيئة منافع مؤقتة… لا علاقة طويلة الأمد.

وهذا نقيض حقيقتها التي وصفها بعض المفكرين بأنها “مسؤولية وجدانية لا تُوزن بالمقابل، بل تُقاس بثبات المشاعر”.

وفوق ذلك، غابت الخصوصية التي كانت تحفظ هيبة الصداقة، في السابق كان الصديق يعرف عنك ما لا يُقال، ويحفظه كوديعة.

أما اليوم، فقد صار الناس ينشرون أسرارهم بأنفسهم، فلا مجال لأن يُخفي الصديق سرك، ولا أن يواسيك في ألم لم يعد مستورًا.

وما زاد الطين بِلّة، أن بعض من يُسمّون أصدقاء، يتابعون أخبارك لا ليطمئنوا، بل ليقارنوا، أو يحسدوا، أو يُشبعوا فضولهم، غابت الصداقة فغابت معها القيم، ولم تعد للخصوصية حرمة.

صارت النصيحة بين الأصدقاء بلا طعم، تُلقى على استحياء، مجرد رأي عابر بكلمة “جرب”، وكأن حياة الآخر ليست بذات قيمة.

نسي كثيرون أن “المستشار مؤتمن”، وأن النصيحة لا تكون نصيحة إلا إذا خرجت من محبة وخوف وصدق.

واليوم صارت خاضعة لمزاج التفاعل، تُمنح بحسب التفاعل الرقمي، لا بحسب عمق العلاقة، لقد تكفلت ضغطة زر بقتل أجمل ما في الصداقة.. فضاعت تلك اللحظات التي تُبنى فيها الشخصية من جدال صادق، أو ضحكة عفوية، أو حتى مزاحٍ خفيف يُرمم الروح.

حتى عبارة ” الصاحب ساحب” تغيّرت ملامحها، فالصاحب اليوم لم يعد بشرًا مثلنا… بل تطبيقًا، أو خوارزمية…تعبث في مشاعرنا، وتوجّه سلوكنا، وتخلق أوهامًا نسميها صداقات.

وكأن شيئًا يقول بانتهاء الصداقة… انتهت المشاعر.

وإن من أخطر مؤشرات هذا الانهيار، تزايد أمراض النفس، فحين يغيب البوح، وتنعدم المشاركة مع إنسان موثوق، يُمهَّد الطريق للاكتئاب.

فالإنسان بطبعه يأنس، لا يعيش وحده، لكنه اليوم محاط بالجميع… دون أن يكون معه أحد حقًا، استُبدلت مجالس الأنس بجلسات علاج نفسي، استُبدل العناق بملصق وجه مبتسم، واستُبدل السؤال الحقيقي (كيف حالك؟) بعبارة آلية (تمت المشاهدة).

وفي ظل هذا التآكل البطيء، يُطرح السؤال المؤلم”هل نحن نُمهّد الطريق لصداقة الروبوت بدل الإنسان؟”.

حين تصبح الصداقة “خدمة”، والاهتمام “خوارزمية”، والعاطفة “رد فعل برمجي”، يجد الإنسان نفسه مُجبرًا على تفضيل الآلة… لأنها على الأقل لا تحكم، لا تغار، ولا تتركه فجأة.

لكن ما لا تستطيع أي آلة منحه، ولا أعظم خوارزمية محاكاته، هو الدفء، والسكينة، والرحمة، والوفاء… لأن الصداقة الحقيقية ليست برنامجًا، بل روح تنبض بالإنسان.

ورغم هذا المشهد القاتم، لسنا سوداويين…

ما زالت هناك قلوب نقيّة تعرف قيمة الصداقة، وتحنّ لصوتها، وتشتاق إلى ودٍّ صادقٍ وقلوبٍ تألفها وتدعو وتجتهد كي لا تنجرّ في تيار التزييف، تُحسن الظن، وتلتمس العذر، وتُمسك بأطراف العلاقة من باب الوفاء، لا المصلحة.

فابقَ صادقًا في ودّك، لا عِوجًا فيه ولا أمتًا، حتى وإن قلّ من يشبهك؛ فإن القلوب الطيبة، وإن تأخرت في اللقاء، لا تُخطئ حين تلتقي.

فبصدقك تبقى “الصفقة” رابحة نفسيًا، بعيدة عن دائرة الخسارة، وتظلّ إنسانيتك أسمى من خوارزميات الاهتمام المؤقت.

عبدالله عمر باوشخه

مقالات سابقة للكاتب

3 تعليق على “الصفقة

غير معروف

بارك الله فيك يا دكتوري الغالي

خالد بن محمد الأنصاري

قرأت الكثير من المقالات عن “الصديق” وما رأيت أبلغ ولا أجمل من هذا المقال الممتع والذي أجاد في وصف حال الصديق والصداقة في هذا العصر .
ولقد أجدت وأفدت كثيراً يا حبيبنا الغالي في الوصف والكتابة عن هذا الموضوع المهم والذي نفتقده كثيراً في هذه الأيام .. ⁧‫
فالصداقة الحقيقية هي المبنية على الصدق ولا تعكرها الشائعات ولا بعد المسافات:

‏سلامٌ على الدنيا إذا لم يكن بها
‏صَديقٌ صدوقٌ صادقَ الوعدِ منصفا

أ.د ناصر الشيحان

‏يأسرُنِي قولُ الشافعيّ لصاحبهِ: “لا تَغفَل عَنّي فإنَّنِي مكروب”
‏- لله درّ الأصحاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *