وادي الظل

حيث تنحسر المشاعر خلف أسوار العزلة، ويخفت صوت الإنسان وسط الضجيج الرقمي، نحاول استعادة دفء القرب في زمن افتراضي، لنخرج من وادٍ غير ذي زرع.

بينما ينشغل صانعو السياسات الصحية في أنحاء العالم بدعوة الناس إلى تعديل أنماطهم الغذائية، وممارسة الرياضة، والعناية بالصحة الجسدية… هناك جانب مهم ظلّ في الظل طويلًا (ماذا عن عافية الروح؟ عن الشفاء العاطفي الذي تمنحه الصداقة، والدفء الذي تهبه العلاقات الصادقة؟)

نحتاج إلى أنظمة تُعيد الاعتبار للصداقة كعنصر أساسي في الصحة النفسية والاجتماعية، ربما لو أُدرِجت الصداقة ضمن سياسات الرفاه العام، لوجدنا مجتمعاتٍ أقل وحدة، وأرواحًا أكثر تماسكًا، ومدنًا يضيئها البشر.

نحن لم نُخلق لننعزل، ولم نُصمَّم عاطفيًّا لنعيش خلف لوحة زجاجية، نحتاج إلى الوجوه، إلى الضحكات، إلى العناق الذي لا يُمكن اختصاره في “رمز تعبيري”، نحتاج أن نرى أعين أصدقائنا حين نفرح، ونسمع نبرة أصواتهم حين نبوح، ونشعر بوجودهم لا إشعاراتهم.

باتت الصداقة تعاني من قطيعة غير مُعلنة، في عالمٍ اختُزل في رسائل سريعة، وملصقاتٍ باردة، تتآكل فيه الروابط شيئًا فشيئًا…

وأتساءل: هل يمكننا أن نعيش لحظة تأمل بلا خشوع؟ إن كان ذلك مستحيلًا، فكيف نعيش الصداقة بلا لقاء؟

الصداقة ليست ترفًا اجتماعيًّا، بل ضرورة نفسية وروحية، إنها مرآة وعكاز، متنفس ومأوى، وهي من أولى الخطوط الدفاعية ضد الشعور بالوحدة القاتلة أو الاغتراب الصامت.

العقل البشري صُمّم للتواصل، وللعلاقات بمختلف درجاتها واقترابها أو بعدها دور جوهري في تهذيب النفس وتثبيت السكينة، ففي حضرة الأصدقاء، نرتّب أفكارنا، نُراجع أنفسنا، نتهذّب بلا وعظ، ونتقوّى دون تكلّف.

في اللقاءات الصادقة تُولد الأفكار، وتُختبر التجارب، ويُعاد رسم الطريق، وتُرمم الذات من ندوب الحياة.

بين الأصدقاء نضحك حتى تنهمر الدموع، ونتنافس بشرف، ونغار بنُبل، ونخاف على بعضنا لا من بعضنا.

تلك المشاعر المتبادلة ليست تمثيلًا ولا اصطناعًا… بل حياة تُحسّ، وشعور حيّ لا يُحاكيه خيال، ولا يُبرمجه ذكاء صناعي، ولهذا نشدّ الرحال لرؤية صديق، أو مشاركته مناسبة أو موقفًا، لا عن واجب بل محبة ووفاء.

إن الاحتكاك المباشر مع الأصدقاء ليس فقط سبيلاً للفرح، بل بوابة للمعرفة والتجربة، فكم من صديق شاركك سرًا غيّر نظرتك للعالم؟ وكم من موقف ضاحك ترك أثرًا عميقًا في روحك؟ وكم من لحظة بسيطة، صنعت فارقًا بين خيبة أمل وتجدد أمل؟

إن أهمية الصداقة ليست طارئة فرضتها العزلة الحديثة، بل هي حقيقة أثبتتها دراسات طويلة، رغم تغيّر كثير من اهتمامات البشر.

ومن أبرز هذه الدراسات، تلك التي أجرتها جامعة هارفارد، والتي تُعد من أطول الدراسات الطولية في تاريخ علم النفس، بدأت عام 1938 بمتابعة 268 طالبًا، ثم توسّعت لتشمل لاحقًا أكثر من 700 شخص، واستمرت لأكثر من خمسة وسبعين عامًا.

وقد وثّقت الكاتبة “ليديا دنورث” في كتابها “الصداقة – تطورها وبيولوجيتها وقوتها الخارقة” نتائج هذه الدراسة، مشيرة إلى استنتاجٍ بالغ الوضوح، عبّر عنه المدير السابق للدراسة، الدكتور جورج فايلنت، بقوله:”تعلمت أن الشيء الوحيد المهم حقًا في الحياة هو علاقاتك بالآخرين.”

وهو ما أكده لاحقًا المدير الحالي للدراسة، الدكتور روبرت والدينغر، بقوله:”العلاقات الجيدة تجعلنا أكثر سعادة وصحة.”

وهكذا تتعزز مكانة الصداقة لا بوصفها علاقة اجتماعية فحسب، بل كأحد أهم روافد الاستقرار النفسي والصحي، بعد الأسرة مباشرة.

نحن نحتاج أن نعود لبعضنا… نُعيد نبض الحضور الإنساني، في جلسةٍ عفوية، وسؤالٍ صادق، وضحكةٍ تولد بلا تكلّف.

فذلك الاحتكاك الإنساني ليس مجرد تواصل، بل هو ما يجعلنا نؤمن بأننا أحياء حقًّا، وبأن للحياة نكهة لا تُدرك وحيدين، حتى لا نصبح من الداخل كـبئرٍ معطّلة، أو كقصرٍ مشيّدٍ بلا روح.

اسألوا الطرقات عن الصداقات… فالأرصفة تحفظ وقع الراحلين، والمقاعد تهمس بحكايات الأوفياء، فلنُغلق أجهزتنا لبعض الوقت، ونقترب من صديقٍ اشتقنا إليه… نحادثه وجهًا لوجه، نُصغي له بلا استعجال، ونضحك معه بلا اختصار.

ففي الصداقة الحقيقية نُشفى، وننمو، ونتذكّر أننا بشر… لا رموز ولا حسابات، يكفي أنها حين تضيق بنا الهموم ونشتاق إلى البوح، تظل الصداقة خيارًا أقرب إلينا من البحر… تسبق موجه، وتحتوينا بلا ضجيج.

فلنصافح قلوبنا قبل أيدينا، ونعيد الصداقة إلى موضعها الطبيعي… ففي كل صديقٍ، حياة نُعيد اكتشافها.

عبدالله عمر باوشخه

 

 

مقالات سابقة للكاتب

4 تعليق على “وادي الظل

غير معروف

دائما متألق يا دكتور

BAKHSH, TALAL ABDULLAH H.

نحن نحتاج أن نعود لبعضنا… نُعيد نبض الحضور الإنساني، في جلسةٍ عفوية، وسؤالٍ صادق، وضحكةٍ تولد بلا تكلّف.
عبارة يجب أن تكتب بماء الذهب.
سلم اليراع وصاحبه.
وضعت يدك على الداء؛ ووصفت الدواء.

Dr. Khaldoun Hasan

بوركت
لا فض فوك
قلمك سيّال
وأفكارك نهر تتلاحق مياهه

ابو سراج

مقال جميل ولامس القلب ، ذكّرنا إن الصداقة مو رفاهية ، لكنها حاجة نفسية وروحية.
وفي وسط العزلة الرقمية ، نحتاج نرجع لبعض ، نعيش اللحظة ، ونحسّ بوجود اللي نحبهم فعلاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *