الفصول الأربعة

لأن النضج لا يُولد بلا عبورٍ من ربيعٍ وصيفٍ وخريفٍ وشتاء… كل فصلٍ يعلمك، ويشكّلك..

في دروب الحياة المتقلبة، لا بد للمرء أن يتزود بشيءٍ من رباطة الجأش، ونضج الفهم، وحكمة التصرف.

فليست الدنيا دار ثبات، ولا الأيام في قبضتنا، بل نحن نعيش في مسرحٍ تتبدّل فيه الأدوار، وتتناوب فيه المشاهد بين فرحٍ عارم وحزنٍ عابر، بين نصرٍ مُبهر وخسارةٍ مُربكة.

وقد خلّدت لنا التجارب حِكمًا تذكّرنا بأن الحياة لا تمنح أحدًا امتياز الدوام، بل تعلّمنا كيف نثبت في وقت الاضطراب، ونرضى في زمن الشدة، ونحمد في لحظة الرخاء.

في بعض المواقف، يكون الصبر فضيلة، لكنه إن تجاوز حدّه، تحوّل إلى استنزاف للنفس وتنازل عن الكرامة.

وكذلك، الفضل من شيم الكرام، لكن شحّه يُطفئ نور العلاقات، ويُقلّص مساحة الإنسانية.

“عدم الإسراف في الصبر، وعدم التقتير في الفضل”

هو الميزان الذي يجعلنا نعيش بكرامة دون قسوة، ونسامح دون أن نُستغفَل.

ليست كل ساحة تستحق الثبات،

وليست كل علاقة يُجبرنا الوفاء على إصلاحها،

وفي بعض المواقف، يكون أسمى ما يمكن فعله هو أن تتعلّم متى ترحل؛ وتلك هي تمام الحكمة

الرحيل لا يعني الهزيمة، بل قد يكون قمة القوة.

حين ترى أن وجودك بات يُستنزف، أو أن كرامتك على المحك،

غادر بهدوء… واترك الأثر لا الأذى.

ليس كل ما يؤلمك يُضعفك،

فبعض الجراح تُعيد تشكيلك، وبعض الصدمات تُوقظ فيك الإنسان الجديد..

“الضربة التي لا تقتلني، تقوّيني” وهي الضربات التي تُشكّلنا..

لأن الألم حين يُحتضن بالحكمة، يُنبت الصلابة،

ولكل سقطةٍ درس، ولكل انكسارٍ احتمالٌ للنهوض.

كما أن لنا لحظات انكسار وتردد،

فإن فينا أيضًا لحظات قوة وثبات ووضوح.

نعم، نتعثر أحيانًا، نبكي أحيانًا، نتراجع أحيانًا…

لكننا لا نلبث أن نستعيد توازننا، وننهض من جديد.

فكما لدينا حالات ضعف، فلدينا حتمًا لحظات من النضج والصمود.

تلك اللحظات التي نقرر فيها ألا ننكسر، وألا نتخلى عن أنفسنا.

وهل نتوقع من المستقبل أن يكون أبطأ مما نحن فيه؟

بل نحن ماضون نحو عالمٍ أسرع، وأشد ضغطًا وتقلبًا.

في مثل هذا العالم، يظن البعض أن الحكمة مجرّد ذكاء لحظي أو فطنة ذهنية،

لكن الحقيقة أن أعمق أنواع الحكمة تنمو في تربة الصبر، وتسقى بمرارة التجربة، وتضيء بنور التأمل.

الصبر ليس مجرد احتمال، بل هو وعي بالوقت، وإدراك بأن الثمار لا تنضج على عجل.

وكم من موقف احتجنا فيه إلى التريث، فكان في التأني نجاة، وفي العجلة ندامة.

الصبر وقود الحكمة… ومن أراد النضج، فليتحمّل مرارة الانتظار.

اعلم أن لحن الحياة لا يكتمل إلا بالصبر والتصبّر، ولا يسمو إلا بالفضل والتفاضل؛ فبهما يُولد التوازن، ويقترب أكثر من منطق العقل، ويلامس طمأنينة القلب.

فالعقل والعاطفة يتجاوران في القلب،

لكن النجاة في أن يُمسك العقل بزمام المسيرة.

فمن اتبع العاطفة وحدها، تاه في دروب الغفلة،

ومن جمّد العقل في حضرة الشعور، اختلّ سلوكه، وانحرف فهمه للناس والأشياء.

والحصيف من يعرف متى يُساير عواطفه، ومتى يُحكّم عقله،

فالعواطف لحظية، تنتهي بانتهاء المواقف،

بينما يبقى العقل يرسم ويكتب فصول حياةٍ الاربعة.

ونظن – والظن في حضرة العقل أقرب إلى الوزن القسط –

أن الحياة لا تطلب منّا أن نكون أقوياء طوال الوقت،

لكنها تحتاج أن نكون واعين، متزنين، صادقين مع ذواتنا في اللحظات الفارقة.

وقل لنفسك عند كل مفترق:

صبرتُ حين وجب الصبر، وغفرتُ حين حضر التسامح،

ومارستُ غضّ الطرف مرارًا، وأعطيتُ من قلبي ما استطعت،

وكنتُ جسرًا للآخرين…

ثم أدركت أن الراحة اختيار،

وأن الطمأنينة طوقُ حقٍّ لي أن ألبسه دون خجل..

عبدالله عمر باوشخه

 

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “الفصول الأربعة

نعيمة بنت ابراهيم

مقال رائع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *