مائة وثمانون درجة

أصبح الأصدقاء شركاء وعي، ومهندسي قرار، وأحيانًا كتّاب سيناريو لحياة بأكملها.

ليس لأن الوالدين غابوا، بل لأن الصوت الأقرب تغلّب على الصوت الأعمق، ولأن الأثر لم يعد حكراً على التربية، بل صار يُصاغ في رسائل الجوال، وضحكات العابرين.

في هذا المقال، نقف على زاوية “مائة وثمانين درجة”، نتأمل كيف يغيّر الصديق مسارك، ويصوغك من الداخل دون أن يستأذنك، فإما أن يدلك على الطريق… أو يعيدك إلى حيث لا كنت.

ما بين قرار صغير وآخر مصيري، قد لا يكون الفارق في الفكرة بل همسة قريبة، حينها ندرك أن الصديق يمتلك مقود القرار لتتجمد جذور البر..

لعلنا هنا نعيد قراءة التأثير، لا بلغة اللوم، ولا تحت مظلة التشاؤم، بل بالتساؤل عن صناع مسارات.. ليتكرر السؤال فيها (هل نحن فعلا من نختار طريقنا؟ أم أن رفقة عابرة تقودنا بانعطاف 180 درجة؟)

الأصل أن أحد أبرز العوامل الخفية والمؤثرة في الفشل – أو النجاح – هو الأصدقاء، الصديق ليس مجرد رفيق طريق، بل بوصلة تفكير، ومرآة لمواقفنا، وأحيانًا دليلنا إلى حيث لا ندري.

من صاحب الكسالى اعتاد التراخي، ومن جاور أهل الأعذار أتقن التبرير، ومن رافق أهل العزم تعلّم أن الطموح عدوى مباركة.

للصديق أثر واضح في حياة الفرد، بل ربما يكون هو الفارق بين أن تنتقل إلى مصاف الإبداع… أو أن تبقى في القاع، صديق واحد قد يرفعك من حفرة التردد إلى قمة الثقة، وآخر قد يغرس فيك بذور الشك حتى في أحلامك، قد يملك في لحظة ما قدرة على قلب اتجاه حياتك بزاوية مائة وثمانين درجة،

فيمسّ أفكارك، يحرّك قراراتك، ويعيد تعريفك للسعادة نفسها.

وهنا لا نحمّل الأصدقاء كل العِبء، بل نكشف واقعًا صامتًا (أننا نعيش اليوم في زمن تغلب فيه التأثيرات الخارجية على التأثيرات الأسرية والتقليدية).

المؤثرون، المشاهير، المنصات الاجتماعية، الأقران، وحتى المحتوى اللحظي…جميعهم يلعبون أدوارًا عميقة في تشكيل وعي الفرد، لكن يظل الصديق – بسبب القرب والتكرار والثقة – أكثر من يُحاكيك ويؤثّر في قراراتك.

لقد تغيّرت خريطة التأثير، لم تعد العلاقات تقاس بالدم، بل بالزمن الذي يقضيه الإنسان في التفاعل مع من حوله، وفي الجيل الرقمي أصبح الأصدقاء أحيانًا أقرب تأثيرًا من الوالدين أنفسهم.

ليس لأن الأهل تراجعوا، بل لأن مسافة التأثير تغيّرت، وصار من يردّ على رسالتك الآن، ويشاركك وجدانك الآن… أقرب لك ممن يسكن معك تحت سقفٍ واحد.

قد تنصحك أمك بالحذر، ويذكّرك أبوك بالقيم، لكن صديقًا واحدًا قد يغيّر قرارك في لحظة،

يدفعك نحو مواقف حاسمة، وأحداث فاصلة، يقرّبك من الله أو يبعدك… دون أن تشعر.

من هنا لم يعد الحديث عن الصداقة ترفًا تربويًا، بل مسألة وجودية، لأن من تختاره ليكون صديقك، تختاره (فعليًا) ليكون شريك قراراتك.

ولذلك قيل “أخبرني من صديقك، أخبرك من ستكون بعد خمس سنوات.”

فالأصدقاء هم أحد المؤثرات الكبرى في صناعة النفس، وقدرتهم على البناء أو الهدم تتفوق أحيانًا على كل ما تلقيناه من وصايا الطفولة.

الزمن لا يظلم أحدًا، لكننا قد نظلم أنفسنا باختيار الرفقة الخطأ، ولأننا نحن من نختار فنحن أول من يُلام.

هناك سؤال عميق يتردد في خواطرنا:

هل الأصدقاء أقدارٌ تُفرض علينا؟ أم قراراتٌ نختارها؟

والحقيقة أن الصداقة تمزج بين القدر والاختيار، قد يجمعك القدر بشخص في لقاء عابر، أو محيط عمل، أو ظرف حياة، لكن الاستمرار، والمشاركة، والاقتراب… هو قرارك.

اللقاء قد يكون صدفة، لكن من تبقيه في حياتك وتُصغي إليه، وتسمح له بالتأثير، هو خيارك الذي تصنعه كل يوم، فاختر رفيقك بعين بصيرتك لا بعين اللحظة، لأنك بذلك لا تختار صديقًا فحسب بل تختار شكل مستقبلك، ووجهتك حين تتفرّق بك الدروب.

يعاني الآباء والأمهات اليوم معاناةً لا يُفصح عنها الكثير، فلم يعد التحدي في توجيه سلوك الأبناء فحسب، بل في إعادة تشكيل وعيهم، وفهمهم لمعنى الحياة، وكيفية اتخاذ القرار.

إنهم يرون أبناءهم يُسرعون في رسم مسارات مصيرية، باندفاع يظن صاحبه أنه نابع من استقلالية،

بينما هو في حقيقته نتاج تأثيرات خارجية كصديق مقنِع، مقطع قصير، مؤثر شهير، أو لحظة انفعال عابرة.

والأبناء وهم في ريعان الحداثة، يظنون أنهم أدرى بحياتهم من أي أحد، لا لأنهم يملكون التجربة، بل لأنهم يتقنون النطق، ويظنون أن السرعة في الفهم تُغني عن عمق الرؤية.

وهنا يقرع ناقوس الخطر، جيلٌ يظن أن المعرفة السطحية تعني النضج، وأن النصيحة الأبوية مجرد “تكرار قديم”، بينما هم لم يقرأوا من الحياة سوى عنوانها ولم يمرّوا بعدُ بعتبات ألمها، ولا بتكاليف قرارٍ خاطئ

إنها معاناة لا تُقال لكنها تسكن في نظرات أم قلقة، وصرخة أب مكسور الحيلة، في أخطر تحوّل اجتماعي يعيشه هذا الجيل، لم يعد العقوق مجرد رفع صوت، أو تأفف من طاعة، بل أصبح انسلاخًا عاطفيًا وسلوكيًا، تسبقه قناعة خادعة تقول (أنا لا أحتاج أحدًا… حتى والديّ).

إن من أسوأ ما تصنعه الصحبة المزيّفة أنها تقدّم دفئًا مصطنعًا وموافقة فورية، فتبدو كأنها أكثر تفهمًا من الأم، وأقرب للواقع من الأب، بينما هي في حقيقتها تُغذي التمرّد، تُعزز الغفلة وتُبرر الجفاء.

فيرى الشاب أو الفتاة في صوت الأصدقاء فهمًا، وفي وصية الوالدين جهلًا، وفي احتضان الصحبة عزاءً، وفي حضن الأم عبئًا… أو تقييدًا.

هناك مثل عربي قديم اختصر بمنتهى البلاغة نظرية الانجذاب السلوكي، أي أن الإنسان غالبًا ما ينجذب إلى من يُشبهه في التفكير أو الطباع أو الاهتمام… (الطيور على أشكالها تقع) وهي ليست مجرد ملاحظة فطرية في سلوك الطيور، بل حكمة عظيمة في فهم النفس البشرية.

فالناس لا ينجذبون عبثًا، بل تميل أرواحهم إلى من يُشبههم في التفكير، في التوجه وحتى في التبرير، والمشكلة ليست فقط في التشابه، بل في أننا بمرور الوقت لا نكتفي بالشبه… بل نصير مثلهم دون أن نشعر فنأخذ طباعهم، نردّد مفرداتهم، ونمشي طرقهم.

وهكذا تنتصر اللحظة على الذاكرة، والمؤثر على المربّي، والصديق على الأم والأب، لا لأن الوالدين تراجعا، بل لأن القلب انسحب من دفئهما، ولم يكن ذلك لأن الوالدين تغيّرا، بل لأن القلب انسحب بهدوء، وتعلّق بصوتٍ أقرب، وأخف، وأسرع… لكنه بلا جذور.

عبدالله عمر باوشخه

 

مقالات سابقة للكاتب

2 تعليق على “مائة وثمانون درجة

حسين النايف

الاصدقاء كثر ولكن ما اكثر الاصدقاء حين تعدهم ولكنهم بالنائبات قليل , والصاحب ساحب , والمواقف هي التي تكشف قناع كل شخص تزلف اليك واقترب لمصلحة ما او لمودة وانت من يحدد العلاقة من الاصدقاء كي تتلاءم مع اخلاقك وتربيتك وطبيعتك .

نعيمة بنت ابراهيم

مقال رائع بستاهل تقراه اكثر من مره وكل مره تقراه تكتشف فيه جوانب مثيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *