نشر الشاعر د. ظافر العمري مرثية في والده رحمه الله وجميع المسلمين بعاطفة حب لاتخفى، وأشار في مقدمة نصه إلى كونه كتبه بعد وفاة والده ونشره بعد أن يبس التراب على قبره، الأمر الذي يعني وجود مساحة وقت للمراجعة والتنقيح بعد صدمة الفراق، وإحقاقا للحق فقد وقفت محتارا بعد قراءتي للنص بين صدق النقد النصي وبين خصوصية النص ومراعاة مشاعر أخينا وزميلنا الدكتور ظافر الذي نكبر فيه حبه للعلم والمعرفة؛ وهذا الإكبار هو الذي رجح المضي قدما في هذه القراءة التي لاتعدو كونها قراءة لاتحجب قراءات أخرى وآراء مغايرة كذلك حيال النص، وبعد القراءة المتمعنة للنص، جاءت هذه الخطرات:
العنوان: عنون الشاعر نصه تحت اسم (شموخ لاينحني) والشموخ مصدر شمخ ويعني العلو والارتفاع، ولذلك لم استحسن إيراد جملة (لاينحني) بعده فلا مكان لها من الجمال، فالشموخ متى انحنى لم يعد شموخا! ولذلك فكلمة شموخ المصدرية كافية للتعبير عن المراد، ولو استخدم الانحناء مع اسم الفاعل لكان ذلك مقبولا بعد الكنتية كقولك: كان شامخا قبل أن تحنيه الخطوب أو الرياح، وعندما ننتقل للأبيات نجد الشاعر يفتتح افتتاحا جميلاً بقصيدة معارضة لميمية المتنبي الشهيرة واحر قلباه.. بقوله:
غاب الكريم الذي يدعى به الكرم
وأجدبت بعده الواحات والقمم
وجماله في اتصاله الوثيق بالمكان الذي عاش فيه المرثي رحمه الله (عسير).

ثم يمضي في مبالغة تستدعي الملوك والأمم لتهوين مصابه بأبيه قائلا:
طود ألم به الوعد الذي خضعت
له الملوك وذاقت مره الأمم
ثم يمضي مبينا مكانة المرثي وصدى فقده:
ضجت لفقدك أركان رفعت بها
أفعالك الغر حتى أسفر الظلم
واستخدام الفعل أسفر جائز لكن الأفصح هو أسفرت لكون الظلم جمع ظلمة وهي مؤنثة ،لكنها دواعي الوزن.
ثم يقول:
ياشامخا وطعون الموت تطلبه
لم ينحن العز أو تستنزل القيم
وهذا يعيدنا إلى صياغة العنوان!
ثم يقول في بيت مؤثر ومعنى جميل:
ترنو إلينا بعين في مهابتها
عزم وينطق من أنفاسك الألم
ويمضي قائلا:
وهمة نفسك العليا تجود بها
تقاصرت دونها الآمال والهمم
وليته قال “تطلعت نحوها الآمال والهمم” لكان أبلغ، ليكون محفزا وقدوة ومنارا يُتطلع إليه ويُواصل التطلع لما يليه، لاحدا ومنتهى تقصر دونه الهمم!
ويمضي شاعرنا قائلا:
وجه له من علا آبائه شمم
ماخلد العرب لاماتدعي العجم
ولا أرى مسوغا لقوله “لا ماتدعي العجم” إلا التأثر بالمعجم التراثي!
ثم يقول:
لما وضعناك تحت الترب يا أبتا
كأنما لف في أكفانك الحرم
ولنتجاوز المبالغة في التشبيه لنتساءل هل كان هذا لوضع المرثي في الكفن أم لوضع الكفن تحت التراب؟! أعلم أن المقصود هو الميت المكفن رحمه الله ولكن قوله (تحت التراب ) أفسد المعنى، فالمتوفى لف في الكفن قبل الدفن وانتظروا للصلاة عليه فهل كان ثمة حائل عن التشبيه حتى يوضع تحت التراب؟!
ولعل ذلك مرده الاستدعاء الذي يمتح من ذاكرة تراثية كذلك.
ثم يمضي في ذكر فضائل الراحل رحمه الله قائلا:
يامانح الشرف الأسمى ومانعه
بمرهف صفحتاه الحزم والشيم
وهنا مبالغة لم يحزها الملوك والخلفاء، فخلفاء بني العباس رغم سطوتهم لم يمنعوا عبدالرحمن الداخل من حصد المجد والسؤدد والشرف!!، ولو قصر العام على الخاص لكان مقبولا كأن يقول مثلا: منحتني الشرف الأسمى وتمنعه…
ويستمر الثناء المبالغ فيه تنفيسا عن لوعة الفقد:
بك الرجال تداري كل معضلة
إذا رجوك فأنت(المفرد العلم)
ثم يقول:
ياسيدي ما أرى في الناس من بطل
ناحت عليه شيوخ القوم غيركم
لكل مشربه، وكل فتى معجب بأبيه، وفي الناس أكفاء وأمثال!
ثم يقول في جمال متناه:
لما رأينا وجوه الناس مقبلة
تبكي العيون وطيب الذكر يبتسم
*****
تحير القلب نبكي مثل حزنهم
أم نستر الحزن بالفضل الذي علموا
وأحسب أن البيتين السابقين هما أجمل مارثى به الشاعر والده الراحل لما فيهما من حسن صياغة وجدة معنى وروح تشاركية بين المعزين وأصحاب المصاب وقرب من واقع التحقق، وتبقى كلمة (نبكي) موضع تأمل؛ وأحسب أن (نبدي) أكثر تناسبا وتناغما مع مالحقها!
وبعد الاسترسال في ثناء لايخلو من مبالغة المحب الموجوع بالفقد يقول:
لو يعلم المتنبي ماسعيت به
لما ادعى خير من تسعى به قدم
ولأن المتنبي لايعلم، فقد فازمتفردا بالمعنى وبالسبق إليه!
ثم يقول:
تأوي لقامتك الأسياد مقنعة
رؤوسها وإذا خاطبتهم فهموا
ولاتحسبن الحديث لصاحب سلطان، وإنما لأب كبر في عين ابنه الذي استلهم معانيه من عمق تبحره بالتراث.
ثم يوازن الشاعر بين مسألة (ظاهرة) وأخرى (قلبية) في معرض ثنائه على الراحل قائلا:
أنت الذي لوتضل الشمس مطلعها
ماضل عن فعلك الإخلاص والشمم
وأما الشمم فباد، وأما الإخلاص فأمره لله!
ثم يقول:
ياقاتل الشح والأقوام معدمة
بفضلك الناس تستقوي وتحترم
بل بفضل الله ياشاعرنا.. بل بفضل الله!
ثم يمضي مستلهما التراث ومستحضرا مدح الفرزدق لزين العابدين بن علي عندما قال:
ماقال لا قط إلا في تشهده
لولا التشهد كانت لاؤه نعم
ليقول مثنيا على والده رحمه الله:
ما رد يوما على الأبواب سائله
لو قال (لا) إنما في طيها نعم
وليته قال: لو قال لا إنما في نطقها نعم، لربما أدرك السائل قبل انصرافه كسيرا من (لا) قبل أن يستمع لما في طيها!
وسأتجاوز قوله:
أراك تشرق والأرجاء مظلمة
وتبعث العزم فيمن (روحه صنم)
لا لرداءة التشبيه فحسب وإنما لمآزق أخرى!
لنقف مع قوله:
أبقيت في كل آفاق الحياة لنا
مآثرا لم يطقها السيف والقلم
فإن كان إيراد القلم مبررا؛ فما هو داعي السيف والسيوف مغمدة منذ توحيد المملكة بحمد الله، بل منذ خضوع عسير للحكم السعودي؟! إنه حب التراث الذي عرف به شاعرنا!
ثم يختم ختاما يؤكد مكانة المرثي وعدم انتهاء مآثره التي سيقف دون المضي فيها لعجز الشعر عن بلوغ المراد ونفاذ القول والكلام!
وهكذا ينتهي النص الذي تتجلى فيه عاطفة الحب القوية، ولعل ذلك أثر على اختيار الشاعر وجعله يستفزع بمخزونه التراثي من عبارات وصور وتراكيب، فجاءت بعيدة عن المعاصرة، موغلة في المبالغة في عدد من المواضع، رحم الله الراحل وبارك في الشاعر وفي بره ووفائه الذي سعى لرثاء والده وتخليد مآثره.