لم يعد العقوق اليوم مقتصراً على رفع الصوت أو ترك البر، بل اتخذ وجوهاً أشد قسوة وأعمق ألماً.
هذا العقوق الجديد لا يجرح الجسد فحسب، بل يطعن القلب، لأنه يأتي من أقرب الناس، ممن كان يُنتظر منهم الوفاء.
ولو علم الأبناء أن رضا والدهم هو بوابتهم إلى رضا الله، لحفظوا الستر، وأحسنوا القول، وبادلوا الإحسان إحساناً .
ليس البرّ منّةً يهبها الابن لوالده متى شاء، بل هو حقٌ لازم، وعهدٌ ثقيل حمله منذ أن نزل إلى هذه الدنيا.
وإن قسوة العقوق لا تكمن في الأفعال وحدها، بل في انكسار قلبٍ كان يحيا من أجلهم.
كم من والدٍ أفنى زهرة عمره ليستر أبناءه عن أعين الناس، فإذا بهم أول من يهتك ستره.
وكم من أبٍ رفع أكفّ الدعاء لهم في السحر، فإذا بأفعالهم ترد بالفتور والنفور.
وكم من يدٍ أنفقت بسخاء لتغنيهم عن السؤال، فإذا بالجحود هو الردّ، والنكران هو الجزاء.
لكن قسوة العقوق لا تأتي بغتة، بل تتسلل ببطء، ابتداءً بالتجاهل، ثم بكلمة جافة، وينمو مع نظرةٍ باردة، حتى يصل إلى طعنةٍ في القلب، ممن كان يتوقع منهم أن يكونوا سنده وعضده.
كيف ساغ للأبناء أن يكونوا أول من فضحوا أباهم وكشفوا عورته أمام الناس.
أيّ قلبٍ هذا الذي يحتمل أن يُقابل الحب بالجحود؟ وأيّ نفسٍ هذه التي لا ترتجف خجلاً من خذلان رجلٍ أفنى نفسه ليحميهم؟
الأب لا ينتظر من أبنائه هدية فاخرة، ولا يريد منهم أن يردوا العمر الذي بذله، كل ما يرجوه أن يجد في عيونهم ما يسعدهم، وفي ألسنتهم كلمة طيبة، وفي أفعالهم براً يصون كرامته.
لكن حين يتحول البرّ إلى ذكرى، والوفاء إلى قصة قديمة، يصبح قلب الأب ساحة حرب بين صبره وحسرته.
هو لا ينتقم، ولا يرد الإساءة بمثلها، لكنه يذبل بصمت، كما تذبل الشجرة التي قُطع عنها الماء.
أيها الأبناء.. رفقاً بوالدٍ شابت لحيته وهو يحلم بسعادتكم، وحياءً من يدٍ طالما أمسكت بكم وأنتم صغار، لا تجعلوها ترتجف خذلاناً وأنتم كبار، فهو من كان يسير بكم في دروب الحياة كظلٍ يقيكم حرّها، ويستر عثراتكم.
وتأكدوا أن عقوبة هذا العقوق معجلة في الدنيا، مهما أحسنت إلى أولادك ستذوقون طعم الألم، وتتجرعون مرارته من الكأس نفسه.
وتذكروا أيها الأبناء أن العقوق يغلق باب التوفيق ويكبلكم بالتعطيل.
وأخيراً.. إن الآباء أوطان، إن هدمتم جدرانها بقيتم في العراء.
أحمد القاري
المدينة المنورة
مقالات سابقة للكاتب