في زمنٍ باتت فيه المنصات الرقمية ساحاتٍ للعرض والتفاعل، لا يخفى على المتأمل أن بعض السلوكيات بدأت تتسلل إلى أوساط المثقفين والمتعلمين، فتشوّه الصورة التي يفترض أن تكون عنواناً للوقار، ورمزاً للرُقيّ.
من بين هذه الظواهر، ما يمكن تسميته بـ “الاستجداء الرقمي”، حيث يعمد بعض الأفراد إلى طلب المال من مجموعات ثقافية أو معرفية، دون سابق معرفة أو علاقة شخصية، ودون مراعاة للحدود الأخلاقية أو الاعتبارات الاجتماعية.
▫️ من الاستعانة إلى الاستغلال
يبدأ الأمر غالباً بطلبٍ يبدو في ظاهره إنسانياً : حاجة مادية، ظرف طارئ، أو أزمة صحية. لكن ما يلبث أن يتحول إلى نمط متكرر، حيث تُعرض الاحتياجات وكأنها قائمة تسوّق، ويُختتم الطلب برقم الحساب البنكي، وكأن المجموعة تحوّلت إلى مؤسسة خيرية أو صندوق دعم اجتماعي.
وفي مأثور العرب: “ما سأل لئيمٌ قط إلا فضح نفسه”.
لا استئذان، لا خصوصية، ولا حتى احترام لكون هذه المجموعات فضاءات فكرية لا صناديق تبرعات.
▫️ المثقف بين الكرامة والابتذال
المثقف الحقيقي لا يُقاس بكمّ الكتب التي قرأها، بل بقدرته على صون كرامته، واحترام ذاته، ومراعاة السياق الذي يتحرك فيه. حين يتحول المثقف إلى مستجدٍ دائم، فإنه لا يخسر فقط احترام الآخرين، بل يهدم جسر الثقة الذي يربطه بمجتمعه المعرفي.
قال الجاحظ: “إذا أردت أن تعرف قدر الرجل، فانظر إلى ما يسأل، وإلى من يسأل، وكيف يسأل.”
الطلب المتكرر، خاصة إذا كان دون مبرر مقنع، يُلبّس صاحبه ثوباً من اللصوصية المعنوية، ويضعه في خانة الابتذال، لا النخبة.
▫️ الطلب في ميزان الشرع والأخلاق
ورد النهي في الشرع عن السؤال إلا في حالات الضرورة القصوى، وحتى الاقتراض، وإن كان مباحاً، فمشروطٌ بالنية الصادقة للرد، وبالحرج من الإلحاح.
قال النبي ﷺ: “ومَن يستعفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ عزَّ وجَلَّ، ومَن يَصبِرْ يُصبِّرْه اللهُ، وما أُعْطِيَ أحدٌ عطاءً هو خيرٌ وأوسَعُ مِنَ الصَّبرِ”
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، وذكرَ الصدقةَ، والتعففَ، والمسألةَ: اليدُ العُليا خيرٌ من اليدِ السفلى”.
أما التسوّل المقنَّع، الذي يتخفّى خلف كلمات منمّقة، فهو مذموم شرعاً وعُرفاً. فكيف إذا كانت اليد السفلى تُمدّ إلى غرباء لا تربطهم به إلا شاشة؟
▫️خسارة السمعة وهزّ المكانة
كل من اعتاد هذا السلوك، خسر سمعته أولاً ، وهزّ مكانته العلمية ثانياً، ويعرّض اسمه لأن يُصبغ بصبغة الاستجداء، وهي صفة لا تليق بمن يُفترض أنه حاملٌ للواء الفكر والمعرفة.
قال المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكتهُ
وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا
بل إن بعضهم، دون أن يشعر، يُسهم في تدمير صورته أمام طلابه، قرّائه، وزملائه، فيتحول من قدوة إلى عبرة.
▫️ دعوة إلى الوقار والوعي
إننا بحاجة إلى إعادة تعريف العلاقة بين المثقف والمجتمع، وبين الفرد والمجموعة. لا بأس أن يمر الإنسان بضائقة، لكن الاستعانة لا تكون بهذه الطريقة الفجّة. هناك قنوات شرعية، وهناك أصدقاء حقيقيون، وهناك مؤسسات مختصة. أما أن تُحوّل المجموعات الثقافية إلى ساحات استجداء، فذلك انحدارٌ لا يليق بمن يحمل لقب “مثقف”.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن.”
لكن الغنى الحقيقي هو غنى النفس، لا الحساب البنكي.

مقالات سابقة للكاتب