توازنٌ يصون الهيبة ويكسب القلوب… فلا إفراط ولا تفريط..
منذ أن رفع الإنسان عينيه إلى السماء، وهو يبحث عن إشارةٍ تقوده في رحلته بين المعلوم والمجهول، الشمس كانت دليله نهارًا، والنجوم رفقاءه ليلًا، والجبال والصخور والعلامات الأرضية أوتاده في البرّ.
لكن الطبيعة لم تكن دائمًا كريمة في منح إشاراتها، فالغيم يحجب، والظلام يبتلع، والبحر لا يُبقي أثرًا لسالكه، عندها وُلدت الحاجة… الحاجة إلى بوصلةٍ تُثبت للإنسان أن للاتجاه قلبًا لا يخون.
لم تكن البوصلة مجرد اختراع معدني بارد، بل كانت لغة أمان للبحّار، وعصى نجاة للتاجر، وطمأنينة قلب للمسافر الباحث عن القبلة حيثما حلّ.
كانت وعدًا خفيًا بأن الضياع ليس قدرًا أبديًا، وأن في يد الإنسان قدرة على أن يصنع لنفسه طريقًا ولو في أعماق المجهول.
ولعل سرّ جمال البوصلة أنها لا تفرض طريقًا واحدًا، بل تكتفي بأن تقول لك (هنا الشمال أما البقية، فقرارك أنت) إنها تذكير بأن الهداية في الأصل مشعل داخلي، وأن الأدوات – مهما بلغت دقتها – تظل عونًا للإنسان لا بديلًا عن بصيرته.
وكما كانت البوصلة دليل البحّار في لجج البحر، جعل الله الوالدين بوصلة الأبناء في لجج الحياة، فهما الشمال الثابت وسط تيارات التغيّر، والمرجع الذي لا يخذل مهما تعاظمت الرياح، لكن البوصلة وحدها لا تكفي، فالحياة ليست اتجاهًا فحسب، بل جهدًا وتوكّلًا.
المزارع حين يبذر حبّه في بطن الأرض، يعلم أن سرّ الإنبات ليس في يده، لكنه لا يقف متفرجًا، بل يشقّ التربة بعرقه، ويسقيها برجائه، ثم يرفع قلبه قبل يديه إلى السماء منتظرًا الغيث.
وكذلك الصيّاد حين يُلقي شبكته في البحر، يعرف أن الأمواج لا تُؤتمن، وأن رزقه قد يسبح بعيدًا عن مرمى بصره، لكنه يغامر بخطواته على الشاطئ، يمدّ يديه بالأسباب، ويُودع قلبه أمانة الرجاء.
وهكذا الوالدان في تربية أبنائهم، يبذرون القيم في قلوبٍ غضّة، ويسقونها بالنصح، ويضيئون لها دروب القدوة، ثم يظلون مترقّبين ثمرتها في الغد، إنهم يعلّمون، ويصبرون، ويأملون، لكن صلاح الأبناء في النهاية نفحةٌ من رب السماء.
وهؤلاء جميعًا يشتركون في سرٍّ واحد (أن العمل لا يُغني عن التوكّل، وأن التوكّل لا يُغني عن العمل) فالحياة لا تُعطي خيراتها لمن جلس على عتبة الانتظار، ولا لمن توهّم أن جهده وحده يصنع كل شيء، بل تعطي ثمارها لمن جمع بين بذل السبب وصدق الاعتماد على الله.
في هذا العصر لم تعد الصداقة مع الأبناء خيارًا هامشيًا، بل أصبحت ضرورة لحماية الثقة والتواصل، فالأبناء إن لم يجدوا في والديهم أقرب الناس إلى قلوبهم، بحثوا عن بدائل قد تكون مضلِّلة أو خطرة.
ليكن اليقين بأن الصداقة لا تعني التخلي عن دور التوجيه والانضباط، بل هي مزج بين قلب الصديق وحزم المربي.
فمن خلالها تُسمع النصيحة بحبّ لا بخوف، ويظل التوجيه هو البوصلة التي تحفظ الاتجاه، وإن غابت هذه الصداقة الواعية، صار الأبناء أسرع انجذابًا لبوصلة بديلة قد تقودهم بعيدًا عن جادة الصواب.
معنى الصداقة يختلف عند الأبناء عن قصد الوالدين ففي الطفولة يظن الطفل أنها مساواة مطلقة، فيتوقع أن يقرر كل شيء بنفسه، وفي المراهقة قد يفسرها على أنها سقوط للسلطة الأبوية، فيرفض التوجيه بحجة (نحن أصدقاء) إلاّ أنه في الرشد المبكر يبدأ في إدراك أن الصداقة تعني المشاركة والمكاشفة، مع وجود حدود لا ينبغي تجاوزها، وبين طفل يفهم ومراهق يعتقد وراشد يحلل يأتي التوازن الحقيقي من قبل الوالدين.
فالوالدان يقصدان بالصداقة القرب العاطفي والاحترام المتبادل، مع بقاء سلطة القيم والمبادئ، ومن هنا تنشأ الفجوة إن لم يُشرح المفهوم ويُمارس بوعي.
العلاقة بين الأب والأبناء لا تتحول يومًا إلى صداقة بحتة، فهي أولاً وأخيرًا أبوة، غير أن جرعة الصداقة تكبر أو تصغر بحسب العمر، ففي الطفولة يكون الأساس هو القدوة والتوجيه، مع لمسات صداقة تبني الثقة، ثم تأتي المراهقة لتصبح الصداقة ضرورة، إذ يحتاج المراهق إلى من يسمعه بلا أحكام، مع بقاء الحدود واضحة، أما في مرحلة الرشد فتوصف الصداقة بأنها شبه متوازنة، ويكون الأب فيها أقرب إلى دور المستشار.
الصداقة ليست بديلًا، بل رافدًا لميزانٍ إنساني بلا شوائب ولا منغصات، وتلك معادلة دقيقة تحتاج إلى وعي ومهارة (أن نصادق أبناءنا بلا أن نفقد هيبتنا، وأن نوجّههم بلا أن نخسر قلوبهم) وعندها سنحظى بقلبٍ يعرف أن والديه كانا له بوصلةً لا تخطئ الاتجاه.
عبدالله عمر باوشخه
مقالات سابقة للكاتب