قراءة في الذاكرة
تمثل خليص ” الفضاء المكاني ” ذات الموقع الديني والتجاري على طريق الهجرة بين مكة والمدينة ، لذا يستأثر مثل هذا الموقع بالأنشطة السكانية : ومن تلك الأنشطة ظاهرة ( المقاهي ) باعتبارها رافدا اقتصاديا وتجاريا ، وحاجة اجتماعية .
ومن غير المعلوم والمتحصل في خليص الداخل ، سوى قهوة ( سعيد العود ) هذا مسماها ؛ حتى هرمت وطواها النسيان . ولم تجر محاولة إحيائها .
هذه القهوة التي كانت بجوار المسجد ؛ كهامش على نص مقدس ، لم تكن حدثا طارئا ، ونقطة على خارطة المكان فقط ؛ بل كانت معلما من معالم السوق ، وشاهدا على وعي ( النخب ) الخليصية باختيارات الناس ، وتنويعات المناشط المهنية .
وإذا كانت معطيات بناء المقاهي مفهومه – سواء على الطريق العام ، أو على تقاطع الطرق عند بوابة غران ، أو بخليص الداخل ؛ فإنها في باقي القرى ، لا يمكن فهمها إلا من زاوية كونها حاجة اجتماعية .
في هذه السردية يعترضنا سؤالان : سؤال ( المسمى ) وسؤال ( القبول ) لنتفق أولا : ان الدلالة غلبت المكان ؛ فسمي بإسم محتواه . لذا يجوز لنا القول : أن ( القهوة ) دخلت مكة عابرة من اليمن برفقة الحجاج سنة ( ٨٠٠ ) هجرية ( ١٤٥٦ ) ميلادية . وللقهوة حكاية بين ( التحليل والتحريم ) لا يفقهها إلا العارفين بأخبارها والمتابعين لسيرتها . نحيلكم لثلاثة مصادر للراغبين في الإستزاده :
١ – تاريخ القهوة العربية . تأليف محمد غبريس .
٢ – من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي . تأليف محمد الأرناؤوط .
٣ – رسالة في الشاي والقهوة والدخان . تأليف الشيخ جمال الدين القاسمي
الدمشقي .
٤ – غواية الإسم = سيرة القهوة وخطاب التحريم . تأليف الدكتور سعيد السريحي .
والغريب أنها انتشرت بداية في مجالس العلم والعبادة ؛ ثم انتقلت لتجمعات أهالي الأحياء – بعد الصلوات للتسامر وتبادل الأخبار . ولعل نفور شرايح من المجتمع منها يعود إلى زمن تحريمها ، وفيما بعد إلى نوعية روادها .
وبقي مسمى ( قهوة ) مرتبط بها رغم تنوع مشاريبها . ولقد كانت – ومازالت مقاهي مصر تنصب نفسها رائدة – ونحسبها كذلك – في هذا المنشط الاجتماعي والثقافي : وأقدمها الفيشاوي ، وأشهرها ( الريش ) ويعد من رموز وسط القاهرة الثقافية والتاريخية ، وملتقى الكتاب والمفكرين مثل نجيب محفوظ ، ونحن الآن نسعى لتوطين هذه التجربة ، وجعل المقاهي منصات ثقافية واجتماعية .
وللمقاهي مخرجات كثيرة . نشير هنا إلى أنه صاحب انتشارها بشكل واسع ظهور ( القهوجي ) كصاحب مهنة . وأنها استقطبت وافدين جعلوا من المهن الشائعة والمجانية صنائع ربحية .

في قريتي ( أم الجرم ) وفي قهوة ( العنبوسي ) بالتحديد : كان ( ابن ماوي ) جندي هارب من الجيش التركي ، شاعرا ، وحافظا للشعر ، كان يروي الشعر بمقابل . و( حسين الهندي ) مارس الحلاقة والختان بأجر معلوم . وكان ( العنبوسي ) نفسه : يروي فصولا من سيرة عنترة ، وأبو زيد الهلالي .
لقد سهلت المقاهي إقامة مريحة ومربحة . واستثمرت وجودهم للدعاية وزيادة الرواد والسمار !!! وحول سائقي الشاحنات ( البوري – والحضرمي ) تتجمع شرائح اجتماعية متنوعة ؛ لقد كانت المقاهي منصة إعلامية : للمستجد من الأخبار ، وسرد الرواة ، وسماع الأغاني ، وترويج الشائعات !!!
تلك أسماء كانت وماتزال في ذاكرة القرية غير منسوبة ، وغير مسائلة . وتلكم هي تجليات التعانق والتعالق بين مكة وأطرافها . يغنيك شرف المقصد عن سؤال المهاجر …
محمد علي الشيخ
مقالات سابقة للكاتب