خليص في التاريخ المنسي ( ١٣ )

قراءة في الذاكرة 
تمثل خليص ” الفضاء المكاني ” ذات الموقع الديني والتجاري على طريق الهجرة بين مكة والمدينة ، لذا يستأثر مثل هذا الموقع بالأنشطة السكانية : ومن تلك الأنشطة ظاهرة ( المقاهي ) باعتبارها رافدا اقتصاديا وتجاريا ، وحاجة اجتماعية .

ومن غير المعلوم والمتحصل في خليص الداخل ، سوى قهوة ( سعيد العود ) هذا مسماها ؛ حتى هرمت وطواها النسيان . ولم تجر محاولة إحيائها .

هذه القهوة التي كانت بجوار المسجد ؛ كهامش على نص مقدس ، لم تكن حدثا طارئا ، ونقطة على خارطة المكان فقط ؛ بل كانت معلما من معالم السوق ، وشاهدا على وعي ( النخب ) الخليصية باختيارات الناس ، وتنويعات المناشط المهنية .

وإذا كانت معطيات بناء المقاهي مفهومه – سواء على الطريق العام ، أو على تقاطع الطرق عند بوابة غران ، أو بخليص الداخل ؛ فإنها في باقي القرى ، لا يمكن فهمها إلا من زاوية كونها حاجة اجتماعية .

في هذه السردية يعترضنا سؤالان : سؤال ( المسمى ) وسؤال ( القبول ) لنتفق أولا : ان الدلالة غلبت المكان ؛ فسمي بإسم محتواه . لذا يجوز لنا القول : أن ( القهوة ) دخلت مكة عابرة من اليمن برفقة الحجاج سنة ( ٨٠٠ ) هجرية ( ١٤٥٦ ) ميلادية . وللقهوة حكاية بين ( التحليل والتحريم ) لا يفقهها إلا العارفين بأخبارها والمتابعين لسيرتها . نحيلكم لثلاثة مصادر للراغبين في الإستزاده :
١ – تاريخ القهوة العربية . تأليف محمد غبريس .
٢ – من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي . تأليف محمد الأرناؤوط .
٣ – رسالة في الشاي والقهوة والدخان . تأليف الشيخ جمال الدين القاسمي
الدمشقي .
٤ – غواية الإسم = سيرة القهوة وخطاب التحريم . تأليف الدكتور سعيد السريحي .

والغريب أنها انتشرت بداية في مجالس العلم والعبادة ؛ ثم انتقلت لتجمعات أهالي الأحياء – بعد الصلوات للتسامر وتبادل الأخبار . ولعل نفور شرايح من المجتمع منها يعود إلى زمن تحريمها ، وفيما بعد إلى نوعية روادها .

وبقي مسمى ( قهوة ) مرتبط بها رغم تنوع مشاريبها . ولقد كانت – ومازالت مقاهي مصر تنصب نفسها رائدة – ونحسبها كذلك – في هذا المنشط الاجتماعي والثقافي : وأقدمها الفيشاوي ، وأشهرها ( الريش ) ويعد من رموز وسط القاهرة الثقافية والتاريخية ، وملتقى الكتاب والمفكرين مثل نجيب محفوظ ، ونحن الآن نسعى لتوطين هذه التجربة ، وجعل المقاهي منصات ثقافية واجتماعية .

وللمقاهي مخرجات كثيرة . نشير هنا إلى أنه صاحب انتشارها بشكل واسع ظهور ( القهوجي ) كصاحب مهنة . وأنها استقطبت وافدين جعلوا من المهن الشائعة والمجانية صنائع ربحية .

في قريتي ( أم الجرم ) وفي قهوة ( العنبوسي ) بالتحديد : كان ( ابن ماوي ) جندي هارب من الجيش التركي ، شاعرا ، وحافظا للشعر ، كان يروي الشعر بمقابل . و( حسين الهندي ) مارس الحلاقة والختان بأجر معلوم . وكان ( العنبوسي ) نفسه : يروي فصولا من سيرة عنترة ، وأبو زيد الهلالي .

لقد سهلت المقاهي إقامة مريحة ومربحة . واستثمرت وجودهم للدعاية وزيادة الرواد والسمار !!! وحول سائقي الشاحنات ( البوري – والحضرمي ) تتجمع شرائح اجتماعية متنوعة ؛ لقد كانت المقاهي منصة إعلامية : للمستجد من الأخبار ، وسرد الرواة ، وسماع الأغاني ، وترويج الشائعات !!!
تلك أسماء كانت وماتزال في ذاكرة القرية غير منسوبة ، وغير مسائلة . وتلكم هي تجليات التعانق والتعالق بين مكة وأطرافها . يغنيك شرف المقصد عن سؤال المهاجر …

 

محمد علي الشيخ

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “خليص في التاريخ المنسي ( ١٣ )

فواز الصحفي

بما انك تطرقت للمقاهي وذكرت قهوة سعيدالعود بخليص فمما ادركناه من المقاهي وتحديداً بوادي غران اشرت لواحدة منها عند مفترق الطرق بريع الثنية جنوب غران وهي قهوة ( المولد ) لصاحبها عبدالحفظ بن هادي المولد رحمه الله ، وايضاً قهوة ( ابوحشيش ) والتي تقع شمال غرب غران قبل مخطط الدف الحالي وكانت تلك المقاهي تقدم الشاي والطعام لسالكي وعابري طريق مكة – المدينة من الحجاج والزوار والمسافرين وهي وان كانت على بساطتها الا انها لها ذكريات عالقة في الاذهان فهي كانت تعتبر مستحدثة على ابناء القرى جلبت فكرتها من المدن الرئيسة كمكة وجدة ويرون فيها جانباً ترويحياً لتغيير نمط الحياة الذي اعتاد عليه ابن القرية يقدم وجبات واصناف من الطعام غير معهودة خاصة لابناء القرى الذين لم يألفوا مثلها بحكم طفولتهم ثم صباهم والكثير منهم لم يبرح حدود مدرسته ومنزله ومزرعته وقد يؤرخ لتلك الفترة الزمنية وهي التسعينات الهجرية بأنها بداية انفتاح تلك المجتمعات القروية على المدن خاصة مع تطور المعيشة والتعليم وظهور جيل متعلم من ابناء القرى عاش حياة المدينة وكانت بدايات التحول الحضري لسكان القرى للحياة المدنية
فااللهم لك الحمد على نعمه التي لاتعد ولاتحصى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *