الحياة لا تخلو من زلات البشر، فالإنسان ضعيف بطبعه، يخطئ ويصيب، ويقع في الذنب ثم يطرق باب التوبة، غير أن رحمة الله تسبق غضبه، فيستر على عباده ويخفي عيوبهم، لعلّهم يرجعون. ومن أكرم نعم الله أن يغطي على العبد ما اقترف في ليلٍ أو نهار، فلا يراه الناس ولا يطّلع عليه أحد، وكأنّ الذنب لم يكن. ذلك الستر الإلهي باب عظيم للتوبة وفرصة متجددة للرجوع، غير أن بعض النفوس الجاحدة تقابل هذا الكرم بالجحود، فتجاهر بما اقترفت، وتكشف ما سُتر، وتباهي بما استحيت منه الملائكة وارتعدت له القلوب المؤمنة.
وقد قال الله تعالى محذرًا من هذا المسلك:﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ (النور: 19)
المجاهرة بالمعصية ليست ذنبًا عابرًا فحسب، بل هي هدم لجدار الستر، وإشاعة للمنكر، ودعوة غير مباشرة للآخرين إلى أن يسلكوا ذات الطريق. وقد حذّر النبي ﷺ من هذا الخطر فقال: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ! عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، فَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ» (رواه البخاري).
فالعاقل من اكتفى ببلاء ذنبه، ولم يزد عليه بفضيحة المجاهرة، أما من جعل لسانه منبرًا لإذاعة معاصيه فقد خسر ستر الله عليه، وفتح على نفسه أبواب الهوان.
على الجانب الآخر، وعد رسول الله ﷺ من ستر على أخيه المسلم بأن الله يستره في الدنيا والآخرة، ففي الحديث:
«مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»(رواه مسلم).
فكان الستر خُلقًا رفيعًا يحفظ به المجتمع صفاءه، ويُبقي للعبد أملًا في التوبة، بعيدًا عن نظرات الشماتة والتشهير. أمّا الفضيحة فلا تزيد العاصي إلا بعدًا، ولا المجتمع إلا فسادًا. ولهذا قال العلماء: من كان عثرته عارضة يستر ويُناصح، ومن كان مصرًّا مجاهرًا يُرفع أمره إلى وليّ الأمر صيانةً للمجتمع.
وفي هذا المعنى يذكّرنا القرآن بستر العورات الظاهرة والباطنة، حيث قال سبحانه:﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ (الأعراف: 26)
ويذكّرنا النبي ﷺ بقوله في خاتمة الحديث السابق: «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»،
أن المعيار عند الله هو صلاح العمل لا جاه ولا نسب، فمن ستر نفسه وعمل صالحًا رفعه الله، ومن فضح نفسه وتمادى لم تُغنِ عنه مكانته شيئًا. وهذا يتوافق مع قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران: 135)
إن المجاهرة بالمعصية ليست إلا عدوانًا على ستر الله، بينما الستر على النفس وعلى الآخرين باب رحمة يفتح الله به أبواب المغفرة. فلنستح من الله حق الحياء، ولنطو ذنوبنا في محراب التوبة، بدل أن نجعلها رايات ترفرف في المجالس والطرقات. وما أجمل أن يشتغل المرء بعيبه فيصلحه، ويستر على أخيه فيُكرم بستر الله عليه. قال تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ (النور: 30)
ويا أيها القارئ العزيز؛ اجعل من ستر الله عليك حافزًا لشكر نعمته لا لهتكها، واستعن بحلم ربك على طاعته لا على مجاهرته، واعلم أنّ من ستره الله في الدنيا فليبشر بستر أعظم يوم يلقاه، يوم تُكشف السرائر وتنكشف الخفايا.
د. طلال بن عبدالله بن حسن بخش
دكتوراة في المصرفية الإسلامية والتمويل – باحث ومفكر إسلامي
كوالالمبور 03-ربيع الأول – 1447هـ
مقالات سابقة للكاتب