يهيئ أحدهم حقيبته، ابتغاء طلب العلم وبحثًا عن المعلومة، يترك والديه ويمضي، على أمل أن يعود، يمضي بجسده، لكنه يترك قلبه هناك، حيث الدعوات والدموع.
وحين يعود لا يحمل أمتعته فقط، بل يحمل علمًا وقلبًا نضج بالحنين، فيرسم السعادة على محياهما، ويغمران وجهه بالرضا.
عندها تُنسى أيام الغربة، وتذوب قسوة البعد، ويظل العناق الأخير شاهدًا أن كل فراقٍ من أجل العلم، إنما هو وصال مؤجل.
الحنين ليس ضعفًا، بل دلالة حياة، هو الشعور الذي يربطنا بجذورنا، بأهلنا، ببيوتنا، بأصواتٍ ما زالت تعيش فينا، وإن غابت، هو ذاك البكاء الصامت في لحظة تعب، والابتسامة العفوية عند تذكّر موقف أو رائحة أو كلمة.
الحنين هو الحبل السري بين الغريب ووطنه، بين الابن ووالديه، بين المتعلم ومقاعد الطفولة، قد يغيب الأحباب، وتُطوى المسافات، لكن الحنين لا يُغادر…بل يبقى مثل طائرٍ مهاجر، يعود مع كل نسمة ذكرى، وكل موجة دعاء، وكل لحظة سكون.
وفي رحلة الاغتراب من أجل العلم، يكون الحنين رفيق الدرب… لا يُفارِق، لكنه يُقوّي، فهو لا يُضعف القلب، بل يُذكّره بسبب الرحلة، ويشحنه بالمعنى، ويدفعه لأن ينجح… لأجل من يشتاق إليهم.
لدى الاباء قناعة بأن العِلم ليس ترفًا، ولا زخرفة فكرية يتفاخر بها النخبة، بل هو اللبنة الأولى في بناء الأوطان، والدرع الذي يحمي من الجهل والتخلف، وبه تُضاء العقول، وتُروى القلوب…
وأنه المنارة التي تهدي السفن في ظلمة البحر، والبوصلة التي توجه الشعوب نحو الرخاء والكرامة، ومن دون العلم، تظل الأمم أسيرة أزماتها، تعيد إنتاج أخطائها، وتبقى رهينة الجمود.
العِلم يصنع الإنسان الذي يُنقذ، ويُعمِّر، ويُنشئ، ويبتكر؛ ليحوِّل الأحلام إلى حقائق، والرؤى إلى مشروعات تنموية مستدامة.
كل تطورٍ شهدته البشرية – من اكتشاف النار حتى غزو الفضاء – كان ثمرة عقلٍ تعلّم، وسؤالٍ لم يرضَ بالجهل جوابًا.
يتغرب الأبناء من أجل العلم، يحملون حقائب الطموح، ويغادرون إلى حيث تُبنى الأحلام بعيدًا عن دفء البيوت، فتخلو الغرف من أصواتهم، وتخفت ضحكاتهم في الممرات، وتبقى أماكنهم في البيوت شاغرة…لكن في قلوب آبائهم وأمهاتهم عامرة بالذكر والدعاء.
يظن الغريب أنه وحده في غربته، وينسى أن هناك غربة أخرى، اسمها الاشتياق، ويا له من اشتياق! ليس من طرف واحد كما يتوهم البعض، بل هو شوق متبادل، وإن اختلفت وجوه التعبير.
الآباء يشتاقون علنًا، بدمعةٍ لا تخفى، ودعاءٍ لا ينقطع، وصوتٍ يسأل كل مساء (هل اتصل؟ هل أكل؟ هل نام مطمئنًا؟).
والأبناء يشتاقون في صمت، وسط زحمة المحاضرات، وبين أكوام المهام، وفي قلب الغربة، يحنّون لحضن، ولضحكة، ولصوتٍ يطمئن قلوبهم أنهم ما زالوا في عيون أحدهم (أبناء).
إنها سُنّة الحياة… أن ينبت الغصن بعيدًا عن جذره، وأن يحلّق الطائر عاليًا، لكنه يظل يسمع نداء العش في أعماقه، ويحنّ.
نُحب أبناءنا، فنُطلقهم في دروب العلم والنجاح، ونشدُّ على قلوبنا بالدعاء أن يُفتح لهم من أبواب الخير ما تقرّ به أعينهم، وتطمئن به أرواحهم.
فهم وإن غابوا بأجسادهم، فإنهم في نبض قلوبنا لا يغيبون، الفرق فقط في طريقة التعبير، لا في حقيقة الشعور، وأجمل ما في الاشتياق المتبادل أنه لا يُشترى ولا يُصطنع، إنه حب فطري، ورباط قدسي من نسج الرحمة، ويبقى العلم جوهرة نسعى لاستخراجها، وغايةً لكل قلبٍ حصيف.
ولم يكن الاغتراب في سبيل العلم طارئًا على تاريخنا، بل هو سُنّة درج عليها العلماء والأدباء من قبل، وقد عبّروا عنها بأجمل الأقوال: قال الخطيب البغدادي(طلبُ العلمِ لا يُنالُ إلا بالرحلة، وملاقاة العلماء، ومن جالسَ العلماء زاد عقلُه، وتهذّبت أخلاقه) وأشار ابن الجوزي بقوله (ما رأيتُ أطيب من طلب العلم، ولا أشهى من الغربة فيه، فإن فيها ذلّ السؤال، لكن معها عزّ المقام)، وعلل ابن خلدون قائلًا (الرحلةُ في طلب العلم أمرٌ شائعٌ عند السلف، وهي مما يدلّ على شرف العلم وعلو منزلته، لأنه لا يُنال إلا بالمشقة)، أما مصطفى صادق الرافعي فقال (الغربة لا تسرق من الإنسان وطنه، ولكنها تكشف له عن حقيقته، وفي طلب العلم يكون الاغتراب طهارة للعقل، ونضجًا للروح)، وللشيخ علي الطنطاوي رأي العالم الحكيم حين افرد بقوله (من لم يغترب لطلب العلم لم يذق طعمه، فالعلم غريب لا يُمنح إلا لمن غَرُبَ قلبه وجسده من أجل لقائه)، ويُسند كل ذلك قول النبي ﷺ (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة) رواه مسلم.
في رحلة الاغتراب لا تُقاس المسافات بالكيلومترات، بل بنبض الدعاء، ودفء الذكرى، وثقل الأمل، فمَن غادر لأجل العلم لم يبتعد حقًا، بل قرر أن يقترب أكثر… من الغد، من النور، من المعنى.
بعض الرحلات لا تبدأ من باب بيت، بل من نبض قلب، وبعض الحقائب لا تُملأ بملابس، بل بأحلام، بدعوات، وبصورٍ مطوية بين صفحات الذكرى، كل غريبٍ في طلب العلم سلك دربًا وحمل حقيبة، لكن الدرب علّمه أكثر مما حمل، والحقيبة صانت له ما لم يُكتب بعد.
اغتربوا لأجل المعرفة، واغرسوا في غربتكم شتلات المجد، وازرعوا لأوطانكم شجرة علم تُثمر ألف حلمٍ نافع. وعودوا… لا بأمتعة ثقيلة، بل بأوطان تحتفي بكم.
عبدالله عمر باوشخه
مقالات سابقة للكاتب