رحلة إلى جبل الفِقرة – الجزء الثالث

د. يوسف العارف

(2) المحاضرة وفضاءاتها التاريخية:

1/2 … كنت غِرَّاً يوم نشأت في (جازان) لكني تفاخرت – ولازلت – بجبل فيفا… ومناظره الخلابة وخضرته المصاقبة لياض السحاب وسواده.. ومدرجات مزارعه وسهوله ووديانه!! شدتني مزارع البُنَّ و(…..)، ولطافة الأجواء المطيرات، ونزعة الرجولة والانتماء والتفاعل الحضاري مع كل المكونات!!

وفي (الطائف) عشت صباي وفتوتي، ولاأزال مرتبطاً به مكاناً وزماناً وسكناً ومعيشة.. ومنذ ذلك الزمن وحتى اليوم وأنا أتفاخر بجبل الهدا ومزارع الورد واخضرار البيئة وجبل الشفا وما فيه من عرعر وعتم وغابات من الورود والتين الشوكي والفواكه المحلية.

وعندما انتقلت إلى مكة المكرمة وتبوأت آفاق جامعتها العريقة تعرفت على شباب من أهل المدينة المنورة ومن قبائل حرب ومن قبيلة (الأحامدة) وقبائل (جهينة)، فسمعتهم يتفاخرون بجبل (الفقرة)، وارتفاعه الشاهق، والخضرة التي يتميز بها وبرودة الأجواء في الشتاء واعتدالها في الصيف وأنها مصيف لأهالي المدينة وينبع وما حولها، وأنها تنتج العسل الجبلي الذي ليس له مثيل!!

ومنذ ذلك الحين بدأت اهتماماتي بتاريخ الجبل وجغرافية المنطقة، ورحت أمنِّي النفس بزيارة أو رحلة أو جولة تعريفيية، أمتع فيها ناظريَّ، وأعيش تجربة جماعية تنضاف إلى تجاربي وخبراتي الحياتية!!

#     #     #

2/2 و(الفقرة) جبل… أو هي سلسلة جبال مترابطة تشبه العمود الفقري في الإنسان والحيوان، ومن هنا جاءت التسمية، وترتفع عن سطح البحر بحوالي 1900 متر/ ما يساوي 500 قدم، وتشتهر بنخيلها المتميز الذي ينتج ثلاث مرات في السنة ومن أشهر تموره (الجيبلي) أو الكعيك، وهو نخل يعتمد على الأمطار الموسمية وبرودة الأجواء في هذه الجبال، وربما تصل أعمارها من 100 – 200 سنة، وتمتاز بطول جذعها، وقد شاهدناها على جانبي الطريق في طريقنا نحو (الفقرة).

كما تشتهر بخصوبة أرضها الزراعية التي استصلحها بعض المزارعين في زراعة الفواكه ومنها التين الشوكي، والبرتقال والتفاح والمشمش والرمان والزيتون.

كما اشتهرت بعسلها الجبلي ذي الجودة العالية وعلى مستوى العالم إذ فاز بقصب السبق والأولوية هذا العام 2025م، فقد شارك أحد النحالين/ محمد بن دخيل الأحمدي وحصل على المركز الثاني في المسابقة العالمية في لندن/ بريطانيا. وتخليداً لهذه المناسبة قال أحد الشعراء من رجالات الفقرة وهو الشاعر فيصل بن محمد الأحمدي كسرة شعرية:

فاز العسل من دياري فاز
وعن كل الأعسال متفوق

*****

ومن بعد ما حقق الإنجاز
أصبح هدف كل متشوق

(انظر الشبكة المعلوماتية، مقالة بصحيفة مكة الإلكترونية 21/7/2025م بقلم الكاتب عبدالرحمن عبدالقادر الأحمدي).

وإذا تجاوزنا الجغرافيا ووصلنا إلى التاريخ، فقد وقفت على جوانب كثيرة من تاريخ هذه المنطقة والقبيلة التي تسكنها حالياً قبيلة (الأحامدة)، وهم أحد فخوذ قبيلة (بني سالم) من (قبائل حرب) ويتفرعون من نسب محمد بن ميمون.

وقبيلة (الأحامدة) من القبائل ذات الطابع الزراعي على المنحدرات والمدرجات الصالحة للزراعة.. ويعد جبل (الفقرة) أحد الحصون الطبيعية والمواقع الاستراتيجية التي تضمن الاستقلالية والمأوى المحصن طبيعياً لارتفاعاته الشاهقة.

#     #     #

3/2 تشير الدراسات التاريخية أن (قبيلة حرب) ومنهم (قبيلة الأحامدة) عاشوا في ظل الدول الإسلامية من عهد النبوة والعهود التالية حتى قيام الدولة العثمانية وحكمهم الممتد إلى الحجاز والمدينة المنورة وما حولها، ولكن تحت مسميات قبلية مختلفة ولم يُعْرَف إلا حديثاً بهذا الاسم القبلي، وبرزت كقبيلة ومشايخ وزعامات في ظل الدولة العثمانية وحملاتها ضد الحجاز واعتراض القبائل لوفود الحج للحصول على مخصصاتهم المالية التي كان أمراء الحج يخفونها ويمنعونها عن المشائخ!! ولذلك كانت تقوم الحروب والمعارك بين هذه القبائل والعسكر العثمانيين المرافقين لحملات الحج.

ففي العام 1155هـ كان شيخ حرب هو عيد بن أحمد بن بدوي بن مضيان الظاهري الذي تحارب مع أمير الحج الشامي وقامت الدولة العثمانية بالمدد العسكري وأرسلت جيشاً بقيادة عبدالله باشا وقاتلوه حتى انتصروا عليه سنة 1171هـ وقتل ابن مضيان في هذه المعركة.

وفي العام 1212هـ حدث نزاع بين أمير المحمل المصري ومعه الحجاج المغاربة والمصريين وبين قبائل حرب وقائدهم عامر بن جويسر الأحمدي والسبب أن أمير المحمل منع القبائل من إعطائهم المخصصات المالية المقررة من الحكومة العثمانية، وبعد مصادمات وحروب، اضطر أمير المحمل أن يتصالح معهم ودفع المخصصات لهم (انظر د. مبارك المعبديـ ملامح من تاريخ حرب، ص 374).

وفي العام 1215هـ ثارت قبائل حرب على أشراف الحجاز وأيدوا حكام الدرعية السعودية الأولى، وكان شيوخ حرب آنذاك (بادي وبداي ابني بدوي بن عيد بن مضيان الظاهري).

وفي عام 1226هـ كان مسعود بن مضيان وأتباعه قد اشتبكوا في حروب طاحنة مع القوات المصرية/ العثمانية بقيادة طوسون باشا (انظر الدكتور مبارك المعبدي: ملامح من تاريخ حرب ص 376).

يتبع في الجزء التالي …

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *