توزعت العقول بين البشر، كما توزعت الأرزاق والأخلاق، في ظلّ تملّك الإنسان للعقل، تمكّن من التفكير والإدراك، والاستمتاع بالحياة، والاستفادة من الماضي بوصفه خبرة، ورسمِ خططٍ للمستقبل.
كما استطاع أن يختار، وينطلق، ويُعمّر الأرض، ويعمل فيها تحت ظلال الأحلام…
وبالعقل ترجَم مشاعره، وخيالاته، وذكرياته، واعتقاداته، وصاغ بها سُبُل تصرفه في مواجهة الأحداث والمواقف.
وحين عزّز وعيه بقيمة العقل، تمكّن من رؤية الألوان، ومزجها لتكوين أطياف جديدة، ومن تمييز الأشكال، والإنصات للأصوات وفهمها.
وحين باغته القلق أو غلبه الفزع، لم يهرب… بل درسهما كخبراتٍ انفعالية قابلة للفهم والمعالجة.
وبالعقل أيضًا، عرف حالة الطقس، وتصرّف في الأطعمة الفائضة، فكانت الثلاجة، وحفظ المواد لوقتٍ أطول،
وتمكّن من تسخير البحار والمحيطات وسيلةً للتنقّل، والتبادل، واستثمار ما في الطبيعة من منافع…
ثم ماذا؟
ثم أدرك من أدرك… أن ما من شيءٍ خلقه الله عبثًا،
وأنه ما من مخلوقٍ كتب الله له البقاء في الحياة، إلا وله دور، وإن خفي.
فالأشجار ليست كالجبال…
ومن العبث أن نتصور أن الحياة يمكن أن تستغني عن أحدهما..
الأشجار تمثّل الليونة، والظل، والتنفس، والجمال المتجدّد،
والجبال تمثّل الثبات، والصلابة، والحماية، والصمت الذي لا يُهزم.
واحدة تنمو… والأخرى تقف..
واحدة تُثمر… والأخرى رواسي.
لكن كلاهما معًا… يُبقيان الحياة ممكنة.
كذلك الناس…
في علاقاتنا مع بعضنا البعض، نفهم أن منهم من يُشبه الأشجار، فهو مرن، دافئ، قريب، يعطي دون ضجيج.
ومنهم من يُشبه الجبال، فهو راسخ، حازم، لا يتغيّر كثيرًا، لكن وجوده أمن.
المشكلة فقط…!
حين نقيس الجميع بمسطرةٍ واحدة،
فنطلب من الجبل أن يُثمر، ومن الشجرة ألا تميل..
فنعجز عن احتواء الفارق… ونقسو بلا وعي..
كمن يضيق عن رحابة الاختلاف… ويفسد بجهلٍه ما لا يدركه..
فنحكم على الجبل بالجفاء، ونُحمّل الشجرة عبء الصمود..
وهنا… نُفسد التنوّع، ونخلط بين الأدوار.
يا من تشبه الشجرة، لا تخجل من ظلّك…
ففي الظل راحةٌ، وفي الليونة حكمة.
ويا من تشبه الجبل، لا تعتذر عن صمتك…
ففي الصمت وقار، وفي الثبات أمان.
فالله ما خلق التنوّع إلا ليكتمل به المشهد،
ولولا اختلاف الأدوار… ما استمرت الحياة.
ولولا تباين الصفات… ما اكتمل المعنى.
فبالعقول استوعبنا الزلازل، والبراكين، والأعاصير…
وإن بدت في ظاهرها غضبًا، ودمارًا، واختلالًا في توازن الكون،
إلا أن من تأمّلها بعين الإيمان، وعمق الفهم،
أدرك أن الله لا يخلق الفوضى… بل يخلق بها التنبيه.
الزلازل لا تخرج من الأرض عبثًا،
والبراكين لا تثور بلا حكمة،
والأعاصير لا تمرّ بلا غرض.
كل ما يهزّ استقرارنا… يحمل رسالة.
في الجغرافيا… هي ظواهر تُعيد توازن الأرض،
وفي الروح… هي صدمات تُعيد ترتيب الإنسان من الداخل.
فما أكثر النفوس التي لم تغيّرها الأيام الناعمة،
لكن هزّها موقف واحد، فأفاقت.
تمامًا كما قد تنهي صدمةٌ علاقةً… لتمنحك بدايةً حقيقية مع نفسك.
أحيانًا… يحتاج الإنسان أن يُزلزل كي يستيقظ،
وأن تنفجر براكينه المكتومة… كي لا يختنق.
وأحيانًا، تمرّ عليه ريح عاتية، فتقتلع ما لا ينفع،
وتتركه نقيًّا، متجددًا، كالأرض بعد الطوفان.
الزلازل قد تُهدم بيتًا… لكنها تُنقذ روحًا.
والبراكين تحرق… لكنها تُخرج من باطن الأرض خيرًا لم يكن ليخرج لولاها.
فلا تخف من ضجّة الحياة… فلعلها تُرتّبك على نحوٍ أفضل.
ولا تستعجل الحكم على ما يهزّك… فلعلّه كان يهديك.
وهكذا تمرّ بنا الحياة… أطيافًا من بشر، وأفكار، ومواقف، وزلازل.
منها ما يُربكنا، ومنها ما يُعيدنا إلى ذواتنا أنقى… وأقوى.
فامضِ في طريقك… واعلم أن كل طيفٍ مرّ، كان له دور، وإن ظننته سراب.
عبدالله عمر باوشخه
مقالات سابقة للكاتب