‏فضيلة طلب العلم ونشره

قال الله تعالى في كتابه المجيد:
‏﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ﴾

من فوائد الآية كما جاء في تفسير السعدي: “فضيلة العلم، وخصوصاً الفقه في الدين، وأن من تعلّم علماً، فعليه نشره وبثه في العباد، ونصيحتهم فيه، فإن انتشار العلم عن العالم من بركته وأجره الذي يُنمى له، وأما اقتصار العالم على نفسه، وعدم دعوته إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وترك تعليم الناس ما لا يعلمون، فأي منفعة حصلت للمسلمين منه؟ وأي نتيجة نتجت من علمه؟ وغايته أن يموت، فيموت علمه وثمرته، وهذا غاية الحرمان لمن آتاه الله علماً ومنحه فهماً.”

‏لذا قال الأصمعي: “أول العلم الصمت، والثاني الاستماع، والثالث الحفظ (أو القيد)، والرابع العمل، والخامس نشره بين الناس.”

‏أيضاً في الآية – أيها المباركون – دليل وتنبيه لطيف لفائدة مهمة، وهي أن المسلمين ينبغي أن يُعدّوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلى غيرها، لتقوم مصالحهم، وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم ونهاية ما يقصدون قصداً واحداً، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمال متباينة، والقصد واحد، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور التي دلّ عليها هذا الكتاب العظيم، الذي يهدي للتي هي أقوم في كل مجال وفي كل أمر ذي بال.

‏وفي الآية – أيها الكرام – فضيلة العلم النافع، والحرص على طلبه والتفقه فيه ونشره بعد العمل به، وقد دلّ القرآن على ذلك في مواطن عدة، يكفي أن نعلم أن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستزادة من شيء في القرآن إلا من العلم، فقال: ﴿ وقل ربِ زدني علما ﴾.

‏وتأملوا معي هذا الحديث العظيم لتعلموا فضل العالم ومكانة العلم في ديننا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
‏”من سلك طريقاً يطلب فيه علماً، سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإنّ فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر.”
‏رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن، وفي صحيح الجامع (٥/٣٠٢).

‏قال أهل العلم: “ثمرات حضور مجالس العلم ستة: السكينة تنزل على الحاضرين، والرحمة تغشاهم، والملائكة تحفهم بأجنحتها، وأعظم من ذلك أن الله جل جلاله يذكرهم فيمن عنده، إضافة إلى الأجر الأخروي والتحصيل العلمي.”

‏وفي فضل العلم يقول ابن القيم رحمه الله وصدق:
‏”ولو لم يكن في العلم إلا القرب من رب العالمين، والالتحاق بعالم الملائكة وصحبة الملأ الأعلى؛ لكفى به شرفاً وفضلاً، فكيف وعِزّ الدنيا والآخرة مَنوطٌ به، مشروطٌ بحصوله.”

‏وهو القائل أيضاً:
‏”العلم حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض العقول، ولذة الأرواح، به يُعرف الله ويُعبد، ويذكر ويوحد، ويحمد ويمجد.”

‏وأقول: لطلب العلم لذة، وللبحث عن فوائد الحكمة سعادة، من لم يتذوق تلك ويعش هذه، فاتته لحظات هي من أسعد لحظات الحياة، ومن جرّب علم.

ولْيُعلم أن “لذة العلم أعظم اللذات، واللذة الحقيقية التي تبقى بعد الموت وتنفع في الآخرة هي لذة العلم بالله والعمل له.”

‏وتلك اللذة لن تأتي إلا بعد صبر عظيم ومشقة، وتأمل في قصة موسى عليه السلام والخضر كيف قال له في بداية رحلة طلب العلم: ﴿ إنك لن تستطيع معي صبرا ﴾، فالعلم – أيها المبارك – كما قال أهله: “لا يُدركه من لا يُطيلُ درسَهُ، ويكُدُّ نفسه، ولا يصبر على مشقة طلبه، إلا من يرى العلم مغنماً، والجهالة مغرماً، فيحتمل تعب الدرس ليدرك راحة العلم، وينفي عنه معرّة الجهل، فإن نيل العظيم لا يتم إلا بأمرٍ عظيم، وعلى قدر الرغبة تكون المطالب، وبحسب الراحة يكون التعب.”

‏يقول صاحب همة:
‏”سأنفق ريعان الشبيبة جاهداً
‏على طلب العلياء أو طلب الأجر

‏أليس من الخُسران أن ليالياً
‏تمرُّ بلا نفعٍ وتُحسبُ من عمري.”

‏ختاماً:
‏من أجمل ما قرأت قول الإمام أحمد: “العلم لا يعدله شيء، لمن صحت نيته.”
قيل: وما النية الصحيحة؟ قال: “رفع الجهل عنه وعن الناس.”
ابتغاء مرضاة الله وطلباً لما عنده.

‏وصدق شوقي حين قال:
‏”ولا عظّمتُ في الأشياء إلاّ
‏صحيحَ العلم، والأدبَ اللُّبابا

‏فعلِّم ما استطعتَ، لعلّ جيلاً
‏سيأتي يُحدثُ العَجَبَ العُجابا.”

 

 

د. سعود بن خالد

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *