القلم وما يسطرون

ما القلم، والكلمة، والكاتب، والقراء، والزمن إلا محطاتٌ في طريقٍ واحد.

فمنذ أن وُجدت الكلمة، صار القلم قلب الإنسان حين يبوح، وصوته حين يصمت، تحوّل القلم من أداةٍ جامدة إلى رفيقٍ سرمدي، يودِع فيه أسراره، ويُسجِّل به أحلامه وآلامه، معارفه وأشواقه، مآسيه وانتصاراته، تاركًا بصمته على صفحات التاريخ، وكل ما يفيض من إنسانيته.

بالقلم وُلدت العبارات الجميلة، وسارت الحكايات المتقنة عبر الأزمان، ومن بين سطوره انتقلت المعارف والأخبار، وتشكل تاريخ البشرية، ومع مرور الزمن، أضحت الكلمة صناعةً ذات هدف، لا مجرّد مدادٍ على ورق، ولا حروفًا تُرصّ في أسطر، إنها نبضٌ خفيّ يتردّد في قلب المجتمع، ويمتدّ أثره في الأجيال كما يمتدّ النهر في صحراء قاحلة فيمنحها حياة، وفي زمننا الحاضر، غدت الكتابة بوصلةً ترشدنا وسط صخب المعلومات وضجيج اللحظة.

الكتابة تحفظ التجارب من الضياع، وتحيل اللحظة العابرة إلى ذاكرةٍ جماعية، وتُلبس الأفكار ثوبًا من البقاء.

هي صوت الفرد حين يود أن يخاطب الجماعة، ولسان الجماعة حين تبحث عن سبيلٍ للتعبير، ومن بين السطور، تتشكل الهوية، وتُرسم خرائط الوعي، ويُزرع الأمل في غدٍ أفضل.

إنها ليست ترفًا ولا هوايةً عابرة، بل قوة خفيّة تصوغ الوعي، وتشيّد الحضارات، وتمنح الحياة معنى يتجاوز اللحظة، لذلك يمكن القول (إن المجتمع الذي يكتب هو مجتمعٌ يعي ذاته، ويحاور واقعه، ويصنع مستقبله).

فالكتابة ليست امتياز نخبة ولا موهبة حصرية، بل فضاء مفتوح لكل من أراد أن يشارك المجتمع فكره، شريطة أن يكتب بصدقٍ، وباحترامٍ للقيم، وبمسؤولية تجاه أثر الكلمة.

اليوم، فُتِحت أبواب الكتابة على مصراعيها أمام الجميع عبر منصّات التواصل والنشر الرقمي، غير أنّ هذا الاتساع يفرض وعيًا وتمييزًا، حتى لا تنقلب الحرية إلى فوضى، ولا تتحوّل الأقلام إلى سيوفٍ جارحة، بدل أن تكون جسورًا للتفاهم، ووسيلةً لنقل العلم والمعرفة.

لذا، لا ينبغي أن تنفصل الكتابة عن المسؤولية الأخلاقية والفكرية؛ فمَن يكتب، إنما يخاطب العقول والقلوب، ويتحمّل تبعات ما يزرعه من أفكار، أو ما يثيره من أفعال، فالكتابة أمانة.

وبعض الكتّاب تشعر أنّ القلم قد جمعهم إليه بوصفه صديقًا أبديًا، لا يخون ولا يشي، يظلّ حاضرًا في الفرح والحزن، في المرض والصحّة، في العزلة كما في صخب الحياة.

المنفلوطي نزف وجدانه على الورق، والرافعي نحت بيانه من صخر اللغة، والطنطاوي بثَّ في كلماته روح المربّي والداعية، والقصيبي مزج الحبر بخبرة الحياة، فاجتمعوا على حقيقة واحدة (أنّ القلم حياةٌ أخرى، لا يكتب بها المرء فحسب، بل يخلّد بها أثره في ذاكرة الأمة).

فقد جعل مصطفى لطفي المنفلوطي من القلم ترجمانًا للعاطفة الإنسانية، ففي النظرات والعبرات كتب بأسلوبٍ يقطر حزنًا وشفافية، حتى غدت كلماته عزاءً لآلاف القلوب، لم يكن يكتب للتاريخ بقدر ما كان يكتب للوجدان.

أما مصطفى صادق الرافعي، فرأى في القلم رسالةً سامية، فصاغ في وحي القلم وأوراق الورد لغةً عالية المقام، ارتقت بالعربية إلى أفقٍ جديد، وأثبت أن البيان حين يُخلص لصاحبه يصبح عبادةً فكرية لا تقل أثرًا عن أي عملٍ نبيل.

وجمع على الطنطاوي بين القلم واللسان، بين المنبر والإذاعة، فجعل من تجربته الشخصية نافذةً على قضايا الفكر والتربية والمجتمع، في الذكريات ومقالاته الممتدة، كان قلمه رفيق دربه، ينير الطريق للشباب ويؤنس القلوب بأسلوبه السلس العميق، فصار علامةً مضيئة في الأدب والفكر الإسلامي.

أما غازي القصيبي، فعاش ازدواجيةً ساحرة بين رجل الدولة والأديب، بين صرامة الإدارة ورهافة الشعر، كتب في الإدارة تجربته العملية، وفي الشعر والرواية وجدانه الإنساني، فبقي قلمه شاهدًا على الصراع بين العقل والعاطفة، وبين الواجب والحلم، لكنه ظل دائمًا الصديق الأوفى الذي جمع بين تلك العوالم في إنسانٍ واحد.

وما تزال القائمة حبلى بأسماءٍ كثيرة، لكلٍّ منهم حكاية مع القلم لا تشبه غيرها، فثمّة من عاش عمره بين المهجر والأدب، وجعل من القلم لسان قلبه، يرى في الكتابة خلاصًا روحيًا يعيد له اتزانه وسط صخب الحياة.

وآخر أفنى أيامه بين الورق والمقاهي الشعبية، فاتخذ من القلم مرآةً للمجتمع وتحوّلاته، يكتب بعيون الناس ووجدانهم، حتى استحق أن يُمنح لقب عميد الرواية العربية.

ومنهم من ظلَّ وفيًّا للكتابة حتى آخر العمر، يراها سبيله إلى التعبير عن رؤيته الفلسفية والإنسانية، فبلغ المئة وما زال الحبر في عروقه حيًا.

وآخر عاش عمره بين الفكر والأدب، جمع في مؤلفاته التي تجاوزت المئة كتابٍ ثراء التجربة واتساع المعرفة، فاستحق أن يُلقَّب (بالكاتب الموسوعي)، إذ عاش صداقةً مميزة مع القلم والكتاب، لا يعرف ملاذًا سواهما.

كلُّ أولئك الكُتّاب، وغيرُهم كثير، رأوا في القلم رفيقَ العمر ورفيقَ الوعي، عاش به بعضهم، وأورثه بعضهم للإنسانية من بعده.

لم يكن القلم في أعينهم أداةً يكتبون بها، بل قدرًا يحمل رسالتهم، وصوتًا يعبر عنهم حتى بعد رحيلهم، حتى غدَوا هم أنفسهم جزءًا من ذاكرة القلم، لا يُذكر اسم أحدهم إلا ويُذكر معه الكتاب والكتابة.

ومعهم أدركنا أن الكلمات لا تُقطف دومًا في لحظة كتابتها، فبعضها يولد غضًّا هشًّا، لا يُقدّر الناس قيمته، فيبقى ساكنًا بين دفّتي كتاب أو في درجٍ منسيّ، حتى تحين ساعة نضجه، فيشرق من جديد كأنه كُتب للحياة مرتين.

وتعلّمنا أن الكلمة تشبه البذرة، تُزرع اليوم، فلا تُثمر إلا بعد حين، فما أكثر الكتّاب الذين لم يُنصفهم زمانهم، وما أكثر النصوص التي عبرت بصمت، حتى تغيّر الوعي، أو تبدّل الحال، أو اشتدّت الحاجة إلى معناها.

إننا لا ندرك قيمة الكلمة حين تتغيّر هي، بل حين نتغيّر نحن، فالنص لا يكبر إلا بقدر ما ينمو وعي القارئ.

كم من عبارةٍ قرأناها مرارًا دون أن ننتبه لها، ثم نصادفها في زمنٍ آخر فنشعر أنها كُتبت لنا وحدنا، في لحظتنا الراهنة، كأنها انتظرتنا طويلًا لتبوح بسرّها.

الكلمات تنضج حين تُختبَر في واقع الحياة، وتمتحنها الأيام، وتتجاوز حدود صاحبها لتصبح ملكًا للبشرية، عندها فقط، تدرك الأجيال أنها لم تكن حروفًا على ورق، بل خريطةً للروح، وقطرةَ ماءٍ في صحراء الوعي، (فالكلمة ليست بنت لحظتها، بل وعدٌ ممتدٌّ نحو المستقبل).

ولهذا، حين نكتب، لا ينبغي أن نسأل (هل سيقرأني الناس الآن؟ بل: هل سيجدني إنسانٌ مجهول بعد عشرين عامًا، ويشعر أنني كتبت له؟).

عندما لا يحبّ الكاتب الأضواء، فليس لأنه ضعيف أو خائف، أو عاجز عن لفت الانتباه، بل لأنه يُدرك أن بعض الأضواء تُبهر… ثم تُعمي، وأن ما يُكتب من القلب لا يحتاج إلى شهرةٍ كي يُثمر، وأن الحروف حين تهاجر إلى الله، لا تطلب تصفيقًا، بل دعاءً بالقبول.

الكاتب الذي لا يحب الأضواء، لا يعنيه عدد القرّاء، بل عدد المرات التي شعر فيها وهو يكتب أن قلبه يلين، وأن نفسه تتطهّر، أن نيّته ما زالت بخير، وأن الكلمة ما زالت طاهرة لم تُمزّقها الأهواء.

هو لا يكره الشهرة، لكنه يخافها…

يخاف أن يُعجب بنفسه، أن يُخدع بلقبٍ أو مدح، أن يُقال عنه ما ليس فيه، فيُخفي نفسه كما يُخفي أحدهم صدقته، لأنه يعلم أن الله لا يزن الحروف بكثرتها، بل بما فيها من صدقٍ وصفاء.

يكتب كما يتهجّد في جوف الليل، بينه وبين الله فقط، لا يدري من يقرأ، ولا كم يقرأ، لكنه يرجو أن يُكتب له (كلمةٌ قالها، فهزّت قلبًا، فاستقامت بها حياة).

فحين تهاجر الحروف إلى الله، لا تعود ملكًا لك… بل تصبح صدقة، يقرؤها قلبٌ بعيد في زمنٍ متأخر،
فتكون ومضةَ هدايةٍ، أو عودةً إلى صواب، وحينها فقط، يدرك القلم أنه أوفى بعهده، وأدّى رسالته بحروفٍ صادقةٍ.

عبدالله عمر باوشخه

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “القلم وما يسطرون

حسين النايف

القراءة ضرورية لتنوير الفكر ويتم إنتقاء ما نقرأه من كتابات ممن يكتبون وتوخي الحذر بالوقوع في فخ بعض الكتّاب ممن يدسون أفكاراً مسمومة ، لذا وجب علينا الإرتقاء بالفكر ومدى تأثرنا بالكاتب فبعض الكلمات نور وبعض الكلمات قبور وهنا يأتي ما يسطره الكاتب من أفكار.
بارك الله بك دكتورنا المحترم وزادك علما ونوراً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *