قال الله تعالى: ﴿هَلْ جَــزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ﴾ [الرحمن: 60].
هي آية عظيمة وردت في محكم التنزيل، آيةٌ قصيرة المبنى، عظيمة المعنى، تختصر فلسفة الأخلاق الإنسانية في كلمتين من نور. هذه الآية العظيمة لا تقتصر على المعاملة بالمثل، بل ترتقي إلى درجةٍ أسمى، تجعل الإحسان طريقًا فطريًا للسلوك لا ينتظر مقابلاً. فالإحسان في جوهره عبادةٌ لا غايةً مصلحيةً، بل هو استجابةٌ لنداءِ الفطرةِ التي جُبلتْ على حُبّ الخيرِ وَرَدِّ الجمِيلِ.
وفي السنة النبوية الشريفة، قال الحبيب المصطفى ﷺ:
(من صُنعَ إليهِ معروفٌ فقالَ لفاعلهِ جَــزاكَ اللَّهُ خــيرًا فَــقَــد أبلغَ في الـثَّــنــاءِ) [رواه الترمذي والنسائي].
كما ورد في سنن أبي داود قوله ﷺ: (مَنْ سَأَلَ بِاللهِ فَأَعطُوهُ، وَمَنْ اِسْتعَاذَ بِاللهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجيبوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْروفًا فَكَافِئُوهُ، فَإنْ لَم تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حتَّى تَرَوْا أَنَّكُم قَدْ كَافَأْتُموه) [رواه أبو داود والنسائي وأحمد].
إن رد َّ الجميلِ، قولًا أو عملًا أو دعاءً، ليس مجاملةً اجتماعيةً، بل خُلُقٌ إيمانيٌّ، بهِ يكتملُ الإحسانُ وتستقيمُ العلاقةُ بين القلوبِ. فكما أنَّ الكفرَ جحودُ النعمةِ، فإنَّ الشكرَ عرفانٌ بها، وَمَنْ شَكَرَ الناسَ فَقدْ شَكَرَ اللهَ.
ومن جميل ما يُروى في أدب الحكم والتهذيب قولٌ يُنسب أحيانًا في أوساط الأدب الصوفي -مترجما- إلى شاعر التصوف الأفغاني (محمد بن محمد البلخي الرومي) الشهير ب جلال الدين الرومي، قوله:
لَا يَشغَلُني مَنْ أَسَاءَ إليَّ فَلستُ أُجَاريهَ إِنما يَشْغلُني مَنْ أَحْسَنَ إِليّ كَيفَ أُجَازِيهِ.
كلماتٌ تنبع من قلبٍ كبيرٍ يترفّع عن الصغائر، وينشغل بالجميل لا بالخصام. فالعارف لا يقف عند الأذى، بل يطوي صفحته ويبدأ سطر الوفاءِ. والنبيل لا يبحث: “مَنْ الذي أساء إليّ؟”، بل يسأل نفسه: ” مَنْ أحَسَنَ إليّ، وَكَيفَ أُكافِئُهُ؟
وهذا المعنى نفسه عبّر عنه الشاعر العظيم أبو الفتح البُسْتي في نونيته المعروفة بــ(نونية البُسْتي في الحِكَمِ)، بجَميلِ نَظْمِهِ:
واحْسُنْ إلَى الناسِ تَسْتـعبِدْ قُلُوبَهُمُ فَطَالمَا اِسْتعْبدَ الإنسانَ إِحْسانُ.
إنها القاعدة التي تلتقي عندها تعاليم الدين ووصايا الحكماء: أن الإحسان لا يضيع، وأن الجميل لا يموت، وأن الوفاء تاج الأخلاق كلها. فمن شُغِل بمكافأة المحسنين، طهُر قلبه من الغلّ، وسما بروحه عن الانشغال بالمسيئين. فالنفوس الراقية لا تُقاس بما تُؤذَى، بل بما تُعطي. ومن علِم أن الإحسانَ طريقٌ إلى الله، لم يملّ السيرَ فِيهِ، ولو قوبلَ بالجفاءِ. فكل معروفٍ مردود، وإن تأخّر جزاؤه، وكل جميلٍ محفوظ، وإن طواه النسيان.
وهكذا يُصبح الإحسانُ خُلقًا دائماً لا مبدأً ظرفياً، والعرفانُ عادةً لا رَدَّةَ فِعلٍ، والوفاءُ مِيثاقًا بينَ القلوبِ، لاَ تبادلاً للمصالحِ.
كتبه الفقير إلى عفو ربه
د. طلال بن عبدالله بن حسن بخش
دكتوراة في المصرفية الإسلامية والتمويل – باحث ومفكر إسلامي
كوالالمبور 19-ربيع الثاني – 1447هـ
مقالات سابقة للكاتب