عن جيل الطيبين من ذاكرتي

كانت السبعينات والثمانينات والتسعينات زمناً له رائحة خاصّة، لا تشبه شيئاً مما نعرفه اليوم. زمن القناة الواحدة، حين كان التلفاز قطعة من السحر، لا شاشةً تُضيء وحسب، بل نافذة تُطلّ على العالم كله.

كنا ننتظر افتتاح البث كما ينتظر العطشان المطر، يبدأ السلام الملكي، ثم تتلوه آيات من القرآن، كأن الوطن يبدأ يومه بصلاته الأولى.

شاشة صغيرة، بالكاد أربع عشرة بوصة، لكنها تسع أحلامنا جميعاً.

كانت برامجنا لطيفة خفيفة، لكنها صادقة؛ تُعلّمنا الأدب قبل المتعة، والقيم قبل التسلية.. كنا نضحك ونحن نتعلّم، ونندهش ونحن نكبر، والبراءة هي المذيع الأول في كل بثّ.

كنا نلعب في الشوارع، بين الأزقة الضيقة والبيوت المتلاصقة، نحمل في جيوبنا الحصى والسيارات الصغيرة وشيئاً من الحكايات. فإذا دوّى من أحد النوافذ صوتٌ يصيح: “غراندايزر”، انطلقت الأرجل كالعصافير المذعورة، وتركنا الكرة والدراجات مكانها كما هي، ويخلو شارع الحارة من أي طفل.. نهرع إلى بيوتنا، نتكدّس أمام التلفاز، والأنفاس تختلط بضحكاتنا.

كان بيتنا ملتقى الحي، لأن تلفازنا “كبير” – عشرون بوصة ! – يجتمع حوله الصغار، نجلس كأننا حجارة شطرنج أو حروفٌ في كتاب الفرح.

أمي كانت تُعدّ الفشار والحلوى، ويمضي الوقت مع مغامرات “سندباد” و”جزيرة الكنز” و”افتح يا سمسم” و”سلامتك” و”ريمي” وأغنيته التي لا تزال أذناي تسمعها: نقطع الدروب.. نفرح القلوبِ.. ولنا في كل شارع صديق .. نقطع المدى.. لا نؤذي أحداً.. نزرع الأفراح في طول الطريق.. أنا صاحب الأحزان ريمي.. رغم حزني وهمومي.. رغم من بالأحزانِ رماني.. أنسى عندكم أحزاني..
من ينساها؟!

كانت تلك البرامج تُربّينا كما تفعل المدارس، وتحتضننا كما لا تفعل بعض الأمهات.. لم نكن نعرف الوقت بدقائقه، ولا نملك ساعة ولا هاتفاً، لكننا كنّا نعرف متى يبدأ “الرجل الحديدي” ومتى تنتهي مغامرات “الليث الأبيض”، وكيف تعيش “ساندي بل” لأن قلوبنا كانت تملك روزنامة لا تخطئ.

اليوم تغيّر كل شيء.
كبرنا، وأضاء البياض أطراف رؤوسنا، لكن داخلنا ما زال ذلك الطفل الذي يركض بين البيوت وينتظر مغامرات الفضاء “غراندايزر” ونردد مع سامي كلارك : علّي علّي بطلَ فليد ..

كبرت الأجهزة، وصغرت الأرواح، تعددت القنوات، وتبعثر التركيز.. صار البث مفتوحاً بلا نهاية، لكن المتعة فقدت براءتها، وضاع الدفء بين الإعلانات والضوضاء.

نحن جيلٌ طيّب، لا لأننا بلا أخطاء، بل لأننا تربّينا على البساطة، على الصداقة الحقيقية، على الفرح الذي لا يحتاج إلى “إنترنت” ليكتمل. جيلٌ حمل في قلبه النقاء، وفي ذاكرته فصول الطفولة التي لا تشيخ.

وكلما سمعنا شارة لمسلسل كرتوني أو اسماً لشخصية بطولية، أو مشهداً لمعاناة ؛ انهمرت الدموع رغماً عنا وأجهشنا بالحنين لدقائق.. ما زلنا – رغم تقدم العمر وغزو الشيب – نحمل في دواخلنا أطفالاً يصفّقون عند سماع السلام الملكي، وينتظرون المسلسل بعد القرآن الكريم، ويؤمنون أن الدنيا بخير ما دام فينا طفلٌ يتذكّر.

✍🏼 أحمد القاري

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *