بادئ ذي بدء فإن التعبير عما تكنه الصدور من المشاعر والحزن والأسي على فقد الأحبة– وأي فقد أعظم من فقد الأم الذي لا يعوض– لا يتنافى مطلقًا مع الإيمان بقضاء الله والصبر على قضائه، والتسليم الكامل لحكمه -سبحانه وتعالى- ما دام الحزن لا يتجاوز الحدود الشرعية، قولًا وعملًا، ولا نقول إلا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا أمَّ الفاروق لمحزنون.
كنت أظن أن اختلاف الليل والنهار يُنسي، وأن الانشغال في متاعب الحياة بوَصبها ونَصَبها وأثقالها قد يلهيني، وأن المرء كلما تقدم به العمر صار أقدر على التحمل والصبر والنسيان، وظننت أن المعارف والعلاقات والسعي وراء تحقيق الأهداف والنجاحات كفيلة بأن تُبدل ما في القلوب وتزيل مرارة الفقد وغُصته. لكنني سرعان ما تذكرت “إن بعض الظن إثم”. فالقلوب الصادقة لا تنسى، والذكريات النقية لا تزول، مهما تقادم عليها الزمان ثابتة لا تتبدل.
عامٌ على رحيلك أمي الغالية، وما زال الجرح غائرًا يأبى أن يلتئم، عامٌ على الرحيل، وما زال عِرْقُ البَيْنِ في القلب نازفًا، ولهيب الشوق إليك يزداد اشتعالا، والحنين لأحضانك يقتلني، عامٌ على الرحيل أذكرك في كل صلواتي، ودعواتي، وأحاديثي ومجالسي، عام على الرحيل أراجع فيه شريط الذكريات، أتذكر أدق التفاصيل: صبرها واحتسابها، ابتسامتها، وضحكاتها التي كانت تملأ البيت، أنسها وملاطفتها لأحفادها، تجمعنا حولها، نسكها وعبادتها، برها وتقواها.
عامٌ على الرحيل أحاول فيه جاهدًا الهروب من حقيقة فقدها، رغم علمي أن الموت حقيقة حتمية كتبها الله على بني آدم، وهو سنة الحياة التي لا مفر منها، طالت أم قصرت أيامه، وكأنني طفل صغير؛ لكن الحنين الجارف إليها، وما كانت تأسرني به من حب وحنان ودعوات صادقة وتوجيهات وذكريات جميلة جمعتنا، يجعلني أتصرف وكأنها لا تزال معي على قيد الحياة.
فما كنت أفعله في حياتها، أجدني أفعله أحيانًا كثيرة بعد وفاتها، عندما تأتيني البُشرى بخبر يُسرني، أخرج جوالي لأتصل بها كي أشاركها فرحتي، وحينما أذهب إلى مكانٍ كانت تُحبه، يأتيني هاجس، كأنه هاتف من السماء، يقول لي: “هيا، أخبر الوالدة”. في كل مناسبة، في كل نجاح، في كل أفراحي وأتراحي، أفعل ذلك مرارًا وتكرارًا، -وهكذا حال باقي أبنائها ينتابهم نفس الشعور والأحاسيس-، لكني سرعان ما أتذكر فقدها، فأدعو ربي أن يغفر لها، وأن يتغمدها بواسع رحمته، ويحسن ضيافتها، ويغفر لها ما تقدم من ذنبها وما تأخر، وأن يُسكنها فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقًا.
إن الحب الجارف الذي يسكن قلبي تجاه أمي أنا وباقي إخوتي وأخواتي، زرعته الوالدة فينا صغارًا بجميل وجمال قلبها وحنانها، وسقته بماء البر وحسن المعاملة، وأحاطته بسياج من القيم النبيلة والحنان، ورعته بتضحياتها ودعواتها الصادقة؛ فأخرج لها بستانا فيها من ثمرات -البر والحب والحنان والاشتياق والإجلال والتقدير- التي لا تنضب مهما طال بنا العمر.
يا لها من أم عظيمة كانت لنا الدنيا بما فيها، وسعتنا بصبرها وحبها، وتحملتنا كثيرًا فوق طاقتها، راضية محتسبة ضاحكة غير عابسة، عاملتنا بما يُرضي ربها عنها، فعاشت على الفضيلة كريمة، سخية، باذلة، تقية، نقية، محبوبة من الجميع، ورحلت طيبة السيرة والعمل، رحل جسدها وبقي أثرها، فجزاكِ إلهُ الكونِ بالخلدِ منزلاً به سندسٌ خضرٌ وفيه الرفارف.
برحيل أمي، أدركت أن موتها لم يكن حدثًا عظيمًا فحسب، سيمر كما مر غيره، بل حالة من التيه سيستمر مداها طويلا، أدركت قول الشاعر أحمد شوقي في رثاء أبيه أنه ينطبق عليَّ:
أنا مَنْ مات …… ومن مات أنا
حينما غادرت أمي هذه الدنيا وأغمضت عينيها للأبد، شعرت بأن الأرض قد ضاقت عليَّ بما رحبت، وانعدمت بي السبل، وأقدامي لم تعد تقلني. وأدركت أنني بحاجة إلى المزيد من الجهد والعمل؛ لأن مفتاحًا من مفاتيح الرضى الرباني قد فُقد للأبد. لكن السلوى في أنها رحلت إلى رحمة الله، وتركت زيف الدنيا وغرورها.
أسأل الله أن تكون الآن في دار خير من دارنا، وأن تنعم برحمة الله وفضله. دعواتي لها لا تنقطع، وذكراها الطيبة باقية في قلبي حيّة ما حييت، وإني لأحسب أنها لم ترحل إلا بجسدها.
إنه لمن الصعوبة بمكان على قلبي أن أتواجد في مكان كانت تتواجد فيه أمي وتلازمه، فلم يكن غيابها مجرد فراغ، بل شرخٌ امتد إلى أعماق قلبي ووجداني، لذلك أحاول الهروب قدر المستطاع حتى لا أزيد أوجاعي وأوجاع الجميع، فصدقًا كانت الوالدة لنا الدنيا وما فيها، وكذلك الجميع كان يحبونها ويقدرونها لما يجدونه فيها من حنان وعطف ونصيحة وبذل الخير، فهي حقاً سيدة قلّ وجودها في هذا الزمان.
لم تكن مجرد أم، بل كانت نهرا من الطيبة والنقاء، شجرة وارفة الظلال يستظل بها الجميع، ونبعًا من الحنان لا ينضب، حديثها يملؤه الحكمة رغم أنها لم تحصل على أعلى الشهادات، وفي صمتها، كنت أجد الأمان.
لم تكن فقط أمي، بل محبوبتي طالما اتصلت عليها وغازلتها برقيق وجميل الكلمات، بل هي روحي وقلبي، والصديق التي تحمل أسراري، والكتف الذي أستند إليه حين تثقلني الحياة. أمي كانت أجمل ما عرفته حياتي، أيقونة من الصبر، وقدوة في العطاء، وروحًا تحمل من النقاء ما لم أره في سواها.
أتذكر تلك اللحظات العصيبة التي مرت عليَّ حينما قررت العودة إلى بلدتي في الإجازة الصيفية لأشارك إخوتي وأخواتي عيد الأضحى، اقتربت لحظات الوصول والحزن يملأ قلبي والخوف يقتلني، فكيف سأدخل بيتها دون أن تستقبلني، صورتها لا تفارق خيالي– يا رب هون– وأجعل ذلك يمر دون أن أتسبب في ألم أو جرح لأحد، حاولت الهروب قدر المستطاع أجاهد نفسي ودموعي وأدعو ربي، موقف مهيب أن أدخل غرفة أمي ولا أجدها.
برحيلها، أدركت أن كل ما تقدمه من بر وإحسان وعمل وعطاء ودعاء هو قليل في حق الأمهات، ومهما حاولنا رد الجميل، سنبقى عاجزين عن الإيفاء بجزء يسير من حقها علينا، ودين الناس يوماً سوف يقضى ودين أبويك لن تقوى عليه.
أدركت أيضاً أني كم كنت مقصرًا في حبها وفي حقها، ولم أبرها كما ينبغي، وكم كنت غافلًا عن نهر الحسنات الذي يجري تحت أقدامها، كم فرطت في جبال من الحسنات تأتي سهلة يسيرة، كم كنتُ قريبًا من نعمة عظيمة، لكنني لم أستغلها أحسن استغلال، أدركت أن الحياة لا تحلو بدونها، وأن السعادة يذهب شطرها بفقد الوالدين، أدركت أن الطيبين والطيبات في هذا الزمان حضورهم خفيف لكنه عميق الأثر، يرحلون ويتركون بصمة هادئة لا تمحوها الأيام، هم الذين يعطون بلا حدود، يزرعون الخير دون أن ينتظروا المقابل، يتركون فراغا لا يسده أحد.
ولكن البر لا يتوقف بفقد الوالدين، بل يمتد بعد موتهما كما كان في حياتهما، ومن فاته الإحسان في حياتهما فليحسن بعد وفاتهما، ومن أعظم أنواع البر الذي يُوصَل به الوالدان بعد وفاتهما: الاستغفار لهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ» رواه أحمد في “المسند“.
والدعاء لهما، وقضاء الدين عنهما، وقضاء النذور عنهما والكفارات، وتنفيذ وصيتهما إن كان لهم وصية، والصدقة عنهما، وصلة معارفهما، والثناء عليهما والاعتراف بفضلهما، وغير ذلك من أنواع البر والإحسان إليهما.
فيا رب، اغفر لأمتك الفقيرة إلى رحمتك، أم الفاروق، وارحمها رحمة واسعة، واجعل مرضها رفعة لها، وجازها بالإحسان إحسانًا، وبالسيئات عفوًا وغفرانًا، واجعل مثواها الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب.
واجعلها من الذين يُقال لهم: “سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ”، وأسكنها الفردوس الأعلى من الجنان، وارزقها لذة النظر إلى وجهك الكريم، واجمعنا بها ووالدنا في جنة الخلد. إنك ولي ذلك والقادر عليه.
مقالات سابقة للكاتب