حضرت البارحة أمسية شعرية ماتعة لشاعر متمكن من زمام الشعر، ممسكٍ بلجام البلاغة، ولم يسرني عدد الجمهور أبداً.. في زمنٍ تتعالى فيه أصوات الجماهير في الملاعب، وتزدحم فيه الشاشات بالمباريات، نجد المنابر الأدبية التي كانت يوماً منارة الفكر وسُرّة الإبداع، قد خفّ بريقها وتراجع حضورها.
الأندية الرياضية تشهد إقبالاً منقطع النظير، والاشتراكات تُدفع بسخاءٍ لمتابعة المباريات والبرامج التحليلية، بينما الأمسيات الشعرية والملتقيات الأدبية لا يحضرها إلا نفرٌ قليل من المعارف والمحبين والمهتمين، في مشهدٍ يُحزن الشعراء والشاعرات، ويكسر خواطر الأدباء الذين نذروا أقلامهم لخدمة الكلمة الجميلة.
كان الشعر يوماً لسان الأمة ووجدانها، به تُروى المآثر وتُخلّد البطولات، ومن خلاله تُربّى الذائقة وتُصان اللغة.
أما اليوم، فقد غلبت ثقافة اللهو على ثقافة الفكر، وصار كثيرٌ من شبابنا يَحفظ أسماء اللاعبين أكثر مما يَعرف من الشعراء، ويُتابع اللقطات الرياضية أكثر مما يقرأ من أبياتٍ أو مقالات.
إن هذا التحوّل لا يُشير إلى تطوّرٍ بقدر ما يُنذر بانفصالٍ عن الجذور، وانصرافٍ عن منابع الوعي التي شكّلت هُويّة العرب قروناً طويلة.
لقد غيّرت التطبيقات الحديثة ذائقة الإنسان قبل عاداته، فصار الانتقال بين المقاطع لا يتجاوز ثوانٍ معدودة، وأصبح الصبر على المشاهدة الطويلة أو الاستماع المتأني أمراً شاقاً.. هذه “السرعة الذهنية” التي فرضتها وسائل التواصل أضعفت قدرة الجيل على الإصغاء والتذوّق، حتى باتت الأمسية الشعرية – التي كانت تُلهم النفوس – تبدو عند بعضهم كحدثٍ مملٍّ لا يحتمل الجلوس له.
وهنا تكمن الكارثة الحقيقية: أن تفقد العقول شهيّتها للجمال الراقي، وتستبدله بلمعانٍ زائف لا يُغذّي الروح ولا يثري الفكر.
إن الشعر والأدب ليسا زينةً لغويةً ولا هوايةً نخبوية، بل هما ذاكرة الأمم ولسانها وضميرها.
بهما تُبنى الشخصية الواعية، ويتربّى الذوق، وتُصفّى الروح من غبار المادية.
وإن أمةً يبهت فيها صوت الشعراء، تُصاب بفقرٍ روحيٍّ لا يُعوّض، لأن الأدب هو الذي يمنحها الوعي والسمو والرؤية العميقة للحياة.
أيها الفتيان والفتية.. أنتم يا شبابنا قادة الغد وصُنّاع المستقبل، أعطوا للكلمة مكانها، وللأدب وقته، وللشعر فرصة أن يُنير عقولكم.
احضروا الأمسيات والمنتديات، واستمعوا للشعراء كما تستمعون للمعلّقين الرياضيين، فهؤلاء يُغذّون الأذن، وأولئك يُغذّون العقل والوجدان.
اجعلوا لأنفسكم مقعداً في مجالس الفكر، فهناك تُولد الأفكار، وتُصقل المواهب، وتُبنى الشخصية القارئة الواعية.
إن حضوركم لتلك المحافل تقدير للشاعر، وتكريمٌ للعربية، وللذائقة التي كادت تذبل في زمن اللهو العابر.
توّجوا عقولكم بالثقافة قبل أن تُتخموا أعينكم بالترفيه، وتذكّروا أن المتعة تزول، أما الكلمة فتبقى ما بقي الزمن.
ليس العيب أن نُحب الرياضة ونستمتع بالمباريات، لكن العيب أن نغفل عن غذاء العقول ونستبدل العمق بالسطح.
فلتكن الميادين متّقدة بالحماس، لكن لتبقَ القلوب مشرعةً للشعر، والعقول مشتعلةً بالفكر.
ففي توازننا بين الترفيه والمعرفة، نضمن بقاءنا أمةً ناطقة بالجمال، متمسّكة بجذورها، سامقةً في سماء الإبداع.
أحمد القاري
مقالات سابقة للكاتب