الأزمات!!

الأزمات!!
من المتعة والإفادة ..إلى التجاذب
الفكري والفلسفي
(مقاربة نقدية)

فاتحة:
… وتنثال الخواطر فرحاً وأنساً بميلاد منجز معرفي جديد ، أفضل نادي حائل الأدبي بتحكيمه ونشره ضمن مطبوعاته لهذا الموسم الثقافي١٤٤٢هـ عبر دار المفردات بالرياض.

وها أنا ذا أسعد بصدوره ‏ببالغ الحب والشكر والامتنان للمسؤولين في النادي وعلى رأسهم الزميل العزيز الدكتور نايف المهيلب والدكتور الحبيب فهد البكر وللمسؤول في دار المفردات الأخ العزيز عبد الرحيم الأحمدي .. وفقهم الله جميعا، وقد أسميت هذا المنجز الجديد “سياحة معرفية مع الكتب والكتاب”، ‏تعبيرا عن التثاقف الواعي مع جملة من هذه الكتب متعددة الأفق والأجناس الكتابية إن أدبية أو فكرية أو تاريخية ،وكل ذلك يصب في البحث المعرفي والآفاق التدارسية والفضاءات الثقافية!!

‏واليوم أتابع شيئا من هذه المتعة الثقافية عبر هذه الوقفات العجلى – ولكنها فاحصه ومكثفة وموجزة – أحاول فيها أن أعرّف وأعلق وأتثاقف مع عديد من المنجزات المعرفية الصادرة حديثاً في هذا الزمن الكوروني الذي استفدنا منه متعة العودة إلى الكتب قراءةً ومثاقفةً ‏في أجواء الحجر المنزلي والاحترازات الصحية والتباعد الاجتماعي!!
******

(٢)‏وأول هذه المنجزات المعرفية كتاب صدر في طبعته الأولى عام١٤٤١هـ/٢٠٢٠م عن مركز الأدب العربي للنشر والتوزيع بعنوان (أزمات/ أوراق في الفلسفة والفكر بين الأنا والآخر) للمؤلف بدر عيد العوفي.

‏ومن الإهداء يتضح توجه الكتاب والكاتب والآفاق المعرفية التي يراودها حيث يقول في إهدائه “… لقوم يعقلون ” ويتبعه – ‏في الصفحة التالية – بمقولة المفكر الكبير مالك بن نبي (رحمه الله) يمجد (عالم الأفكار) على (عالم الأشياء) فعالم الأفكار هو المحك الرئيسي لقيام المجتمعات!!

ويتبع ذلك – في الصفحة التالية- ‏مقولة للمفكر (عبد الكريم بكار) يؤكد فيها على قيمة “الأفكار الجديدة التي تثير الاهتمام والجدل وتحفيز التساؤل ومس طيوف الأفكار العميقة” ‏.

نعم الكتاب وعبر هذه العتبات الموازية الاهدائية/ العنوانية والعبارتين الـ (مالك نبوية) و (البكارية) يقودنا إلى قضايا الفكر والفلسفة لكنه اختار لهما إناءً سردياً قصصياً بطولته (لغادة وغسان) اللذان يوحدهما حرف (الغين) ويفرقهما المعنى والدلالة فـ(الغيد) ‏من اللين والرقة والجمال والنعومة والتمايل والتثني والرشاقة ….

و(الغسن) أقصى الشي وأعمقه ، الجمال و القوة والذكاء والقسوة … وتتماهى هاتان الشخصيتان – بطلا هذه السردية /الفلسفية والفكرية – ليوثقا لنا ‏الأزمات التي عانياها في مسيرتهم العلمية عبر البعثة التي حصلا عليها.

فمن أزمة البدء والموقف والرأي ، ‏إلى أزمات الرحيل والاستقرار واللغة والثقافة مرورا بأزمات الهوية والوطن والحضارة والتصور وانتهاءً بأزمات المعرفة و الإرادة والوعي والأخلاق !!

‏‏وعبر كل هذه الأزمات تتوالى الحكم والفلسفة ووجهات النظر المعرفية والفكرية التي خرج بها بطلا السرد وخاصة (غسان) الذي يؤطر ذلك كله في الكلمات التالية ” ‏إن شحت الحياه فالشجاعة سيدة الصفات، وإن جاد الزمان فالجود والعطاء يصنعان السيادة..” ويضيف: ” فالعلم اليوم هو سيد الصفات والعالم سيد لمنتحلي الصفات وكذلك الأمم فبين أن ترقى بعلمها أو تخر من السماء فتخطفها الطير..”ص ص١٩٠-١٩١

‏وهنا نتساءل أين (غادة) في كل هذه الأزمات وأين اختفت وهي التي قاسمت (غسان) البطولة السردية منذ البداية وبين صفحات الكتاب / السردي تكون الإجابة اللافتة …فـ (غادة) جاءت مبتعثه، ولكنها تحمل إرث قومها المتعارف عليه السيادة والقوامة للرجل / غسان، والأمومة والبيت والحياة الأسرية للأنثى / غادة..

فـ (غادة) ‏تغيب طوال السردية ولا تظهر إلى يوم حملها واحتفاء طلاب الصف بقرب ولادتها. أو في حوار مع عجوز مسنة في المشفى. أو في بدايات البعثة والتسجيل الدراسي..

ويبرز في السردية ( غسان) وصحبه ، فهو المتعامل مع الأزمات ، وهو المناقش والمحاور للزملاء والمعلمين والمعلمات ، وهو (دونكشوت) هذه الملحمة الأزماتية واكتشافاتها الفلسفية والفكرية بين الأنا والآخر كما هو العنوان الفرعي لهذا الكتاب .

وهذا يعني تنامي ( الدور الذكوري) لبطل القصة ( غسان) المؤلف لهذا الكتاب .. وتأكيد الدور الأسري الأنثوي لشريك البطولة ( غادة) زوجة المبتعث !!

وهذه سمة لا وعيّية سبحت في فضاء الذهنية الكاتبة ، وتشي بتغلغل الإرث الثقافي المجتمعي والأسري الذي يتمثله الكاتب فانتقلت إلى وعيه الكتابي حين تشكلت هذه المدونة الكتابية !!

(٣) ‏وبما أن المنطلقات التطلعية للمؤلف كانت قضايا الفكر والفلسفة- كما جاء في العتبات العنوانية والاهدائية- فإن الأزمات التي يناقشها تحمل في طياتها مزيجا من المعطيات الفلسفية والرؤى الفكرية، ويختمها برؤيته (هو) الفلسفية!!

‏ففي أزمة البدء يفتتح بمقولة فلسفية لفيكتور هوجو الأديب والشاعر الفرنسي يقول فيها “ليس هناك ما هو أقوى من فكرة آن أوانها” ص 13 ويختمها برؤية فلسفية (عوفية) عن الزمن: فما هو “الا أداة توقيت داخلية تعمل حين يريدها أن تعمل لميقات الأمل واليأس” ص١٥.

‏ وفي أزمة الهوية تبرز الكثير من السمات والقضايا الفلسفية مسألة الخير والشر، ‏ومسألة الغاية والوسيلة ومذهب الشكوكية والنفعية وحضر نيتشة ومقولاته الفلسفية وفكر آينشتاين والواقعية وأرسطو ثم يخرج في النهاية برؤية فلسفية قوامها: ” فما العلم الأخلاق إن لم تصح الهوية وكيف تصح الهوية بلا إسلام فالحمد لله على هوية الإسلام وعلم أخلاقه” ص٨٢.

‏وفي أزمة المعرفة يتواصل مع مقولات مالك بن نبي وسقراط وأرسطو ونيوتن ونظرية الأوتار التي توحد بين مبادئ الفيزياء على المستوى الكوني والذري ويعرض كل ذلك في منظومة سردية يختمها بأهمية (الإرادة) فهي التي تقودنا إلى (المعرفة) عبر (علوم الدين والطبيعة) ص 132.

‏وهكذا في كل الأزمات التي تنبئ عنها صفحة الفهرس وهي (تسعة عشر) أزمة، يستعرض لنا المؤلف بعض مقولات الفلاسفة ورؤاهم في الكون والناس والحياة ومنها يخرج برؤيته الفلسفية التي يختم بها كل أزمة من تلك الأزمات.

وأخيراً يبلور لنا المؤلف خلاصة فلسفية يقول فيها “فقد عاد (غسان) محملاً بالوطن، ومحملاً بذاته ‏وذاته وذات بينهما ،وقد طرز له اسمه وتمت أزماته ودون هذا وذاك: كانت له الحياة ” ص 190.

‏وهذه المقولة الخاتمة تعيدنا إلى ما جاء في المدخل ص 11- 12، التي يؤكد فيها المؤلف أن القراءة – والتجارب الفكرية وسيلة إلى فهم الحياة، لأن القراءة هي فن الاقتراب من شيء قيد الصيرورة ‏وهي مقولة فلسفية نتوافق أو تختلف معها لا يضير!!

‏وبين المدخل والمخرج كما هي لغة المؤلف أو المقدمة والخاتمة كما هي لغتنا تشعر – كقارئ- بسعادة غامرة مع منجز معرفي / فلسفي / سردي لكاتب شاب حديث، هذا العمل أول اشتغالته المنشورة للناس فتجد فيه المتعة والاستفادة والتجليات الثقافية والفكرية، والتجديد الأسلوبي والمنهجي ‏فأنت أمام (نص) يَشكُل على التصنيف وأمام كاتب جدير بالثقة في ما يكتب لأنه يقول ” ولتقرؤوني كما شئتم فالكتاب -أي كتاب- ليس من فعل كاتب إلا بالنزر اليسير وإنما هو إدراك قارئ حسبما يمليه تمازج الكلمات بالذكريات والمعارف والخبرات، فهي إذن ظلال معانٍ لم يرد كاتبها مد حروفها بل قد مد الظل فاقبضوه يسيراً ‏كي ترى هذه الأمة إشراقة يوم جديد ” ص 12.
والحمد لله رب العالمين

مقالات سابقة للكاتب

2 تعليق على “الأزمات!!

قارئ بنهم

الله على هذه المقاربة

والله على هذا المقال

ويا جمال الكتاب وارباب المقال والكتاب

استمعت جدا

أحمدبن مهنا

وتقاربت خبرة الكاتب مع تجدد ثقافته المستمر ، وملكته الماهرة فأنتجت طبقا أدبيا ماتعا.
دمت د. يوسف بفكرك النشط في صحة وعافية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *