‏( ق : قدوة )!

يوم الطائف رماه الناس بالحجارة وسخروا منه، فدعا ربه أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده. سيرة رسولنا -صلى الله عليه وسلم- حبلى بالأحداث الجسام لكن يوم الطائف يفوقها أثرًا وتأثيرًا كما أراه، كان هذا اليوم موقفًا يهتف بي، أستدعيه كلما واجهتني الصعاب والتحديات، وكلما شعرت بالغضب والضيق من مواقف الحياة وأحداثها التي لا تنتهي، يوم الطائف ظاهره وباطنه الرحمة والحلم، قدوتنا الأولى محمد -صلى الله عليه وسلم- بحلمه وتسامحه حتى مع ألد الأعداء، قدوتنا في عزمه وقوة تحمله وجلده في سبيل إيمانه ، في شجاعته يوم أحد، في مشورته حين غيَّر موقع الجيش في يوم بدر، في إدارته حين كتب وثيقة المدينة التي تعد دستورًا للتعايش بين المختلفين، فن من فنون العيش المشترك، في جنوحه للسلم في الحديبية، في قدرته وحنكته العسكرية في فتح مكة.

برنامج قدوة الذي يأتي شعورًا من المسؤول في الحاجة إلى القدوة وأهمية القدوة في تشكيل المجتمع والإنسان وبنائهما ليبلغ وصف ” القوي الأمين ” كما جاء في أهداف البرنامج ومهامه.
لقد خُطف هذا الجيل من بين أيدينا وخلفنا حين راح يقلِّد ويتخذ قدوة لا تليق بأبنائنا من متطرف إلى جاهل، وصار الجيل تتلاطمه أمواج الحيرة والتيه، حين غاب الأب والمعلم وإمام المسجد والجار والعم والخال والجد عن المشهد، لتظهر لهم قدوةٌ تزيد حيرتهم وقلقهم وترسلهم إلى مصير مجهول.

فكرة القدوة لا تنُم عن اهتمام المسؤول فحسب بل لحرصه على التغيير الإيجابي، وخلق قدوات على مستوى المدرسة والحي والمدينة، الطالب في تعامله مع أقرانه ومعلميه، تعامل قائد المدرسة مع المعلمين وأولياء الأمور، تعامل الأب مع أبنائه، والجار مع جاره، لتنتقل تلك العدوى المباركة لتعم المؤسسات الحكومية ونظام المرور والتعامل مع المرافق وصولاً للتعامل مع البيئة والشعور نحوها شعور الابن نحو أمه.

قد يبدو البرنامج ضربًا من الخيال والمثاليات والأحلام الوردية، والحقيقة أنه ليس كذلك؛ لأننا نستطيع التغيير شرط أن نعزز قيمنا، وأن يؤمن كل منا بالآخر، لكن التوقعات العظيمة والبرامج الطموحة لا تكفيها الصياغة وحدها لضمان نجاحها، بل تحتاج إلى من يؤمن بها ويتبناها ويسعى لتحقيقها على المستويات كافة.

” مؤسسة الفكر العربي ” التي يقودها خالد الفيصل، هذه المؤسسة الثقافية جمعت تحت مظلتها المثقفين العرب ورعتهم وتبنَّت إبداعاتهم، ارتقى بها قائدها للمستوى العالمي ، فهي واحدة من المنجزات القلائل على المستوى العربي التي أثبتت القدرة على توحيد العرب في الثقافة بعد أن فشلت السياسة وقبلها الاقتصاد في توحيدهم وجمع كلمتهم، اليوم هذه المؤسسة تنافس في حضورها وحُسن سمعتها كُبريات المؤسسات الثقافية حول العالم، وإني لأرجو صادقة أن تمتد رؤية خالد الفيصل ونجاحاته لتشمل مجتمع مكة والمحافظات التابعة لها من خلال برنامج شجاع اسمه ” قدوة “، شجاع لأنه يستهدف القناعات والاتجاهات والسلوك، شجاع بقيمه وأهدافه ورسالته، شجاع لأنه يحمل حلماً، فمن يسير بلا حلم يتعثر ويسقط، جاءت لتصنع القدوة الحية في الحياة اليومية الواقعية، ولجعلها مثالاً يحتذى ” سلوكًا وفكرًا ” في المدرسة والبيت والشارع والنادي في أماكن العمل والمسجد في ( المولات ) التجارية والحديقة والشاطئ.

ولعل أكثر ما يفتقده هذا الجيل هو القدوة بعد أن أفرط في التعامل مع التقنية، وبعد أن تراجع دور المدرسة والبيت في عملية التنشئة الاجتماعية بطريقة ” مُكرهٌ أخاك لا بطل ” ، وحلّ محل تلك المؤسسات ” الإنترنت وبرمجياته ومواقعه ” ، حتى فقد الجيل برمته بعضًا من هويته وانتمائه وعلاقاته حتى مع أقرب الناس إليه.
برنامج ” قدوة ” الذي يشكِّل حراكًا اجتماعيًا وتعليميًا لا يضع نفسه أستاذًا ولا معلمًا، ولا يريد أن نتعامل مع أبنائنا بفوقية وتذاكٍ، بل أن نقترب منهم ونشعر بهم ونتفهَّم كل المتغيرات التي تشكلهم وترسم شخصياتهم وتؤثر في توجهاتهم، نريد تحويل البرنامج إلى خطوات إجرائية قابلة للتحقق والقياس، وأن نتشارك في وضع السياسات التي تجعل من الأب والمعلم والمسؤول مثالًا طيبًا يُحتذى في التعامل مع المواقف اليومية في الشارع والعمل والمدرسة والمسجد ، إلى قناعاتنا بأننا أسرة واحدة كبيرة تعيش في وطن واحد، أهدافنا ومصيرنا ومستقبلنا واحد، إلى الشعور بأن هذا الجيل يفتقد الاحتواء والحب والحنان، وأن ثمة هوة عميقة بينه وبين الأجيال التي سبقته.
الإيمان ببرنامج ” قدوة ” هو الخطوة الأولى والعملاقة وما يتلوها من خطوات ستكون يسيرة وفي متناول أيدينا تحفُّنا رعاية الله أولاً ثم أيدينا المتماسكة حتى وإن اختلفنا.

البرنامج يستند على الثقافة والفكر والمعرفة باعتبارها أدوات التغيير وسبل التطوير والطريق لنقلة مجتمعية تنهض وتستثير القدرات والهمم؛ لأنها ترتبط عادةً بالقناعات والاتجاهات، وهذه هي التي تُسيِّر وتغيِّر وتصنع، وهذا يلقي على مؤسسات التعليم خصوصًا والأندية الرياضية عبئاً ثقيلًا ومسؤولية توازي في حجمها الوطن بطوله وعرضه، وتُماثل أحلام المسؤول وتطلعاته في تنمية الإنسان وبنائه.

ولعل ما يميز برنامج ” قدوة ” قدرته على تشكيل روح الفريق والمسؤولية الجماعية – إن جاز التعبير – في العمل معاً من أكثر من جهة حكومية وأهلية في مشروع واحد، وهذه تجربة جديدة وتحدٍ جديد، فهل تستطيع المؤسسات والإدارات التعاون فيما بينها لتحقيق أهداف البرنامج الطَموح ؟

المرء كثير بإخوانه، والعمل الجماعي المشترك يُثري ويغني، تماماً مثل أشجار السيكويا التي تمتد جذورها تحت الأرض وتتماسك حين تهب العواصف فيشد بعضها بعضاً حتى زوال الخطر.  هذه الروح الجديدة التي يجب أن تنفث في جوف المجتمع فتعيد لأطرافه الحياة، نسمع أبناءنا حين تغلق الآذان، ونفتح أذرعتنا لهم حين تضم الأذرع، ونحتويهم بقلوبنا ونغطيهم بأفئدتنا لعل الله أن يبارك الخُطا حين تتوحد الأهداف والغايات لأبناء وطن واحد ودين واحد ورؤية واحدة.البرامج الطموحة تحتاج إلى عزم طموح.

زينب الجغثمي

مقالات سابقة للكاتب

6 تعليق على “‏( ق : قدوة )!

احمد الحربي

بُوركت ِ ، و بُورك قلمكِ ، شمعة تهزم الظلام الضعيف …!

خالد المرامحي

قلم قدوة لكاتبه مبدعة تناولت الموضوع بأفكار إبداعية داخل حراك جماعي حول كيف نكون قدوة

عبدالرحيم الصبحي ـ أبو أوس

ماشاءالله تبارك الله بعدما أنتهيت من قراءة المكتوب تذكرة مقولة : أحيانا لا نكتب ليقرأ الآخرون وإنما لنقرأ نحن ما كتبناه بعد حين ولنعرف ما كنا عليه وما وصلنا إليه شكرا لك كاتبة هذه الصحيفة المتألقة .
كيف نكون قدوة تساؤل الإجابة عليه لا تقبل من مفرد وإنما نحتاج إلى المشاركة المجتمعية ببناء الصف الواحد ولحمة المجتمع الواحد شكرا لك أستاذة زينب شكرا لمنثورك الجميل .

عون السلولي

مشروع مبارك وقلم سيّال ..
أبدعت ..

نويفعة الصحفي

قلم مبدع ، وفكر متألق ، يجيد سبك الكلمة ورسم الحرف ، لتعطي مدلول واضح لا يقبل أنصاف الحلول ، على صفحات من ذهب في صحيفة من العيار الثقيل ..
شكرا زينب كعادتك مبدعة ..
نسال الله الهداية والصلاح في الأمر كله..

يونس

نعم ، كاتبتنا ، برنامج قدوة ، هي رؤية تربوية وتعليمية وثقافية ، توحد الجهود وتنظمها ، ليس لتحسين واقع المجتمع فحسب ، بل الذهاب بعيداً إلى حيث يجب أن نكون في كل شؤوننا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *