ثَمَّةَ لحظة يكتشف فيها الإنسان أن الحياة ليست مسرحاً للوضوح والتناغم، بل حلبة للمفارقات والغموض؛ عندها يتوقّف عن مطاردة يقينٍ مستحيل، ويبدأ بدلاً من ذلك في التدرُّب على العيش داخل المسافة المتوتّرة بين ما يريد أن يكونه، وما هو عليه بالفعل.
حينها يدرك أن الانتظار حتى «يفهم كل شيء» ليس إِلّا طريقة مؤدبة لتأجيل الحياة.
حينها يعي أن الخوف لن يغادر قبل الخطوة الأولى، وأن الشك سيظل جالساً قرب كل قرار، وأن الضباب سيبقى معلقاً فوق الطرق مهما ادّعينا رؤيتها بوضوح.
هنا يتغيّر ميزان الشجاعة؛ فالشجاعة لم تعد غياب الخوف، بل القدرة على التحرُّك رغم حضوره. ولم تعد الثقة شرط البداية، بل نتيجة تتشكل مع كل محاولة.
ويصبح الفعل نفسه إعلاناً عن الهوية التي نسعى لبنائها، حتى وإنْ كانت ما تزال في طور التشكُّل.
في هذا الإدراك، تنمو علاقة جديدة مع الذات والآخر. فلا حاجة لدرع الصلابة، فالصلابة الحقيقية ليست في الحديد، بل في المرونة التي تسمح للروح أن تتنفس.
فأنت تكتشف هشاشتك بالقدر الذي يكفي لبناء جسر، وتفطن لمواضع قوتك؛ ما يجعلك تتجاوز حفر الطريق.
عندها تضع أحلاماً كبيرة بيد، وتترك يداً أخرى مفتوحة لأحداث تهوي على حياتك، تشتاق للنتيجة دون أن تُسَلِّم روحك لها، وتتعلم أن تكون جاداً حازماً دون أن تفقد خفة ورشاقة روحك.
فتصبح قادراً على احتضان الأضداد بلا خوف، الانضباط بجوار العفوية، الحزم إلى جوار اللين، الرغبة في السيطرة مع فضيلة التسليم.
فلا تعود تبحث عن «نسخة مثالية» بلا تناقض، بل تنتبه إلى أن الطاقة تولد من الاحتكاك بين قوتين، كما يولد الشرر من الصوان.
وحين تتخلى عن فهْمٍ كاملٍ لا يأتي؛ تكتشف أن الحكمة ليست في الإجابات الثابتة، بل في القدرة على الوقوف عند حافة السؤال، والمضي قُدماً رغم العتمة، وصناعة معنى من فوضى الخيارات.
عندها تصبح إنساناً بالمعنى النبيل -لا تهزمك الفوضى-لأنك جعلت من الفوضى معبراً لا عقبة، ومن المفارقة سكناً لا سجناً.
بينما يظل الآخرون ينتظرون اتساقاً لن يحدث، تكون أنت قد بدأت الفعل، والعطاء، والعيش؛ لا لأنك أمسكت بالحقيقة كاملة، بل لأنك قبلت أخيراً: أن الحقيقة تتكشَّف فقط لمن يسعى، لا لمن ينتظر الطريق أن يتشَكَّل قبله.
سليمان مُسْلِم البلادي
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي