قبيلتي وبعدها الطوفان!

تبرز الأنا على مستوى الأفراد بأدواتها الخفية كتعويضٍ اصطنعه العقل عبر الوهم الذي يجعل من الفرد مدافعاً عن أفكارٍ وحقائق، وهو في الحقيقة يدافع عن نفسه، وعن هالة الوهم الذي صنعه حول نفسه.
وعلى المستوى الجمعي فإن المنظومة الذهنية “نحن مصيبون وهم مخطئون” هي متجذرة عميقاً في تلك الأجزاء من العالم حيث النزاع بين أمتين، أو عرقين، أو قبيلتين، أو ديانتين، أو أيديولوجيتين طويل الأمد، وجذري، ومزمن.
كل من طرفي النزاع يتماهى مع منظوره الخاص، مع “قصته” الخاصة، أي مع الفكر. وكل منهما عاجز بالتساوي عن رؤية أنه قد تكون هنالك قصة أخرى وإنَّ هذه القصة قد تكون صحيحة.
في نواح عديدة من العالم، الناس غير مستعدين بعد، أو غير راغبين بفعل ذلك.
فكل من الطرفين يعتقد أنه يمتلك الحقيقة ويعتبر نفسه ضحية و”الآخر” شراً؛ ولأنه قد وضع هذا الآخر في إطار مفهومي وشيطنة بوصفه العدو، فيمكنه قتله وممارسة شتى أنواع العنف عليه، وحتى على الأطفال، من دون الإحساس بعذاباتهم وإنسانيتهم.
يصبح الطرفان عالقين في دوامة مجنونة من الجرائم والعقوبات، الأفعال وردود الأفعال.
ويصبح واضحاً هنا أن “الأنا” البشرية في مظهرها الجمعي، أي كـ “نحن” ضد “هم”، هي أكثر جنوناً من “أنني”، أي” الأنا” الفردية، رغم أن الآلية هي نفسها إلى حد كبير فإن جزءاً كبيراً من العنف الذي مارسه البشر ضد بعضهم بعضاً لم يقترفه مجرمون، أو مختلون عقلياً، بل أشخاص طبيعيون ومواطنون محترمون يعملون لخدمة “الأنا” الجماعية. فنجد في ثنايا مفرداتهم، وإشارات خطابهم ما يوحي بالجنون الذي تفلّتَ من عقال الرشد.
حتى ودَّ أشقاهم أن يقول:
قبيلتي وبعدها الطوفان.
فما هذا الذي يقبع في جذور هذا الجنون؟ إنه غياب الوعي، والتماهي التام مع الفكر والعاطفة، أي “الأنا”.
ففي حضور الجنون يذهب الرشد، وفي حضور الرشد يخفت صوت الجنون.
فعلى الراشدين أن يزاحموا على مكانتهم، وألَّا يتركوا الساحة فارغة لذلك الجنون.
وعليهم أن يدركوا أنَّ قلوب الناس بها خير عظيم، وأنَّ الشر مصدره عدم بذل الخير الذي في نفوسنا.
وأن يغرسوا فسيلة الخير ويسقونها ماءً عذباً مصدره سماحة ديننا الإسلامي الحنيف.

سليمان مسلم البلادي
مستشار الوعي الإنساني
solimanalbiladi@

الحلقات السابقة من روشتة وعي

3 تعليق على “قبيلتي وبعدها الطوفان!

القارئ الناقد

أخي الأستاذ سليمان لك شكري وتقديري

هل يفهم من هذا النوع من الوعي فقدان الهوية وقبول الآخر بكل مافيه
حيث ورد في الروشتة أنه (نزاع بين أمتين أو ديانتين ) ( وضع هذا الآخر في إطار مفهومي وشيطنة بوصفه العدو، فيمكنه قتله وممارسة شتى أنواع العنف عليه )
أليس من الوعي معرفة العدو !!؟؟
جاء القرآن الكريم والسنة النبوية بتوضيح هذا الجانب وتوعية المسلمين بعدوهم بكل جلاء كقوله جل وعلا ( هم العدو فاحذرهم – لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله … والآيات في هذا كثيرة )
عندما نقول بأن قتل العدو يتعارض مع الإنسانية (دون الإحساس بعذاباتهم وإنسانيتهم.يصبح الطرفان عالقين في دوامة مجنونة من الجرائم والعقوبات،)
أين موقع الجهاد في سبيل الله وأين تنفيذ حدود الله .
لعل المقال أسهب في جانب على حساب جوانب أخرى .
فالهوية نحتاج فيها ( للأنا ونحن ) فهي خطوط حمراء لاتقبل التماهي والذوبان ولامجال فيها للاستماع والتفاوض مع الآخر فقد بين القرآن والسنة فيها الموقف وحذرنا من الميل للأعداء بالمودة

حظيظ بن مسلم البلادي

ماشالله تبارك الله. سعدت اخي وحبيبي ابو عمر بقراءة متأنية لهذا المقال العميق المفاهيم. مقالاتك جميلة دائما لكن هذا له فهم وطعم خاص للمتمعن. وفقك الله

نفاع بن مهنا بن ماضي الصحفي

أخي القاريء الناقد .. تعليقك أكثر من رائع .. و وددنا لو عرفناك باسمك الحقيقي .. مع شكري الخالص لأخي صاحب المقال ؛ و أقترح أن تكون لغة مقالاتك أكثر سهولة و سلاسة فالهدف وصول الفكرة ، و دمتم سالمين .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *