رحمك الله يا جدي

إني محدثكم اليوم عن رجل (عادي)، بمعايير الشهادات الجامعيّة، وبمعايير السناب شات وتويتر وفيس بوك، رجل ليس عنده حساب في وسائل التواصل، وربما لم يعرف أسماءها، ولكنه عظيم بمعايير الشهامة والإباء والمبادئ والأخلاق.

يريك مَخْبَرُه أضعافَ منظرِه بين الرجال وفيها الماءُ والآلُ ..
رجل أتعب جسده ونفسه، وأفنى عمره في أشياء لا يسيل لها لعاب طالب الدنيا والجاه، ولكنه أفناه في مكارم الأخلاق وصنائع المعروف التي لا تبلى عند الرجال الأحرار ما بقي الليل والنهار، وهي العمر الباقي والأثر الخالد.

إنه الشيخ الشهم، الوفي الحليم، الوَصولُ الحكيم، الإمام الخطيب، مدرسةٌ للنبلاء الأوفياء، هو نهرٌ من الجود والعطاء، يسعى للرفعة والعطاء، مترفِّعٌ متعالٍ عمّن أساء.

إنه جدي الشيخ عوض بن منعم اللبيني السلمي -برّد الله مضجعه ونوّر قبره-
شيخ القرية والقبيلة، شيخ المعروف والبذل، شيخ الوفاء والوصل،
شيخ الاجتماع والصلح، شيخ العفو والصفح!
إن الحديث عن هذا النوع من القدوات والعظماء يجِفُّ له حبرُ القلم ولم ينقضِ الحديث عن مآثرهم، ولا يفي بحقهم مقال أو مقالات!
قد يقال إن هذا حديث المحب الذي ينظر بعين الرضا!
وأقول: فليكن ذلك، ولكني سمعت عن بعضهم يقول بعد وفاته: عوض بن منعم ما تقدر عليه، إن قطعته وصلك، وإن تركته جاءك ووفى معك، لا لضعف، فهو شيخ القبيلة الكريم، يحفُّ به أبناؤه البررة وجماعته كالنجوم والكواكب حول القمر، فلا يحتاج إليك= بل لكرم في طبعه، وصدق في نفسه.

وأريد أن أوجز هنا بعض ما عرفته عن جدي رحمه الله:
• صدق العلاقة مع الله: أحسبه من الصالحين؛ فهو إمام القرية منذ خمسين عامًا، يصلي بهم الجمعة والجماعة والعيد، وله إخبات وقيام ليل ما تركه حتى آخر حياته حين هدّه التعب والمرض، فعجز عن ذلك، وله تأثر بقراءة القرآن، وكان حزينًا آخر أيامه على أنه لا ينظر في المصحف لذهاب بصره فلا يرى إلا بعين واحدة نظرًا ضعيفًا.

والقرآن كله مؤثر، وكثير منا يتأثر بآيات فيها ذكر الجنة والنار.
لكن أهل القلوب الحية يتأثرون بآيات ربما لا تقف عندها يومًا لكثرة ما تسمعها!
أتذكر أنه رحمه الله في يوم عيد صلى بنا الفجر، ووافق يوم جمعة، فقرأ السجدة والإنسان، وقراءته كانت حدرًا وسريعة، ويظن الظانّ أنه لا يتدبر! فلما وصل في آخر سورة الإنسان وهو بقراءته السريعة عند قوله: (ويذرون وراءهم يومًا ثقيلًا) استعبر وبكى! وكان يقول لنا بعد الصلاة: يوم ثقيل الله يعيننا عليه!
وكان محافظًا على صيام الإثنين والخميس، وأحسبه ممن كان يطبِّق ما يبلغه من العلم، لا كحال كثير منا والله المستعان، بلغه حديث أن من حافظ على تكبيرة الإحرام أربعين يومًا كتبت له براءتان براءة من النفاق وبراءة من النار، فعمل به مباشرة وحافظ عليها أربعين يومًا ولم تفته التكبيرة، رحمه الله.

• الإحسان إلى الناس لاسيّما المساكين والذين لا يؤبه لهم، يشهد على هذا أهل الوادي، فكان كثير الإحسان رحمه الله، ولم يكن رحمه الله ذا مال كثير، ولكن الإحسان ليس مرتبطًا بكثرة المال، وأذكر أنه لما مرض قبل سنوات جاءت أرملة إلى إحدى بناته، تسأل عنه وتبكي وتقول: ذبحني الظمأ من بعده! لأن القرية ليس فيها ماء، ويأتيها الماء بالوايتات من جهات بعيدة؛ فكان يتعاهد مثل هذه التي لا يلتفت إليها الناس. ومن ذلك تعاهد العمال سواء كانوا يعملون عنده أم عند غيره ومعاملتهم كأبنائه، ويرفق بهم ويرحم غربتهم، فبكوا لفقده بكاء مرًّا. هذا بعض ما بلغني وما لم يبلغني أكثر بكثير، رحمه الله رحمة واسعة.

ومن ذلك، سعيه في تعليم أبناء القرية، وافتتاح المدارس فيها قبل ما يقارب أربعين عامًا، بل سعى في تعليم الكبار من الرجال والنساء، واحتياجات القرية الأساسيّة.

• صلة الأرحام والأصحاب والجيران: وهو في ذلك آية من آيات الله، الأصل عنده الصلة مهما كان حال ذلك الموصول، صغيرًا، كبيرًا، قريبًا، بعيدًا، واصلًا، قاطعًا.

يصل أبناءه وأحفاده، إذا تجددت لأحدهم نعمة كان أول من يتصل، وإنك لتخجل من نفسك بسبب كثرة وصله رحمه الله رحمة واسعة، يصل جيرانه وجماعته، تجده في الحزن والفرح، في اليسر والعسر، السابق الأول، لا يؤخره عن ذلك إلا صارفٌ من مرض لا يقدر معه أن يأتي، وإني لأجده تطبيقًا عمليًّا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر الجهني: “يَا عُقْبَةُ بْنَ عَامِرٍ، صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ”. كان رحمه الله يبذل الذي عليه وزيادة، ولا يسأل عن الذي له، يشهد بهذا من عرفه، وهذه الصفة لا يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظٍّ عظيم. وكان صبورًا على من آذاه، حكيمًا في التعامل معه؛ كما قال أبو الطيب:
يبيد عداوات البغاة بلطفه فإن لم تَبِدْ منهم أباد الأعاديا
                                                              إذا كسب الناسُ المعالي بالندى فإنك تعطي في نداك المعاليا
وإني لأجد أبيات المقنع الكندي مع قومه حاضرة في حياته رحمه الله لا سيما قوله:
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيسُ القوم مَن يحمل الحقدا
                                                    لهم جلُّ مالي إن تتابع لي غنًى وإن قلّ مالي لم أكلفــــــهمُ رِفْــــدا

• الإصلاح بين الناس: هو شيخ من شيوخ قبيلة سليم ورمز من رموزها ووجيه من وجهائها، فكان له قصب سبق وقدح معلّى وإسهام في الإصلاح بين الناس وسعيٌ في ذلك، سواء في قبيلته أو القبائل الأخرى، فكم شهد مجلسه من صلح بين متقاطعين لبثوا دهرًا لا يسلم بعضهم على بعض، لحكمته وقبوله عندهم، وحياء منه لمكانته ومعروفه رحمه الله رحمة واسعة، وكان حريصًا على الألفة والاجتماع، يجمع ولا يفرق، ويصفح عمن يتجاوز ولا ينتقم.

توفي إلي رحمه الله في مكة ليلة الإثنين6/8/1441هـ وصلي عليه في الحرم ودفن بمكة شرفها الله، رحمه الله رحمة واسعة، وتألّم القريب والبعيد لفقده، وحالهم كما قال المتنبي:
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى أن الكواكب في التراب تمورُ
                                                           ما كنتُ آملُ قبل نعشك أن أرى رضوى على أيدي الرجال يسيرُ
حتى أتوا جَدَثًا كأنّ ضريحَه في كلِّ قلبٍ مُوجِدٍ محفورُ
                                                                  كفلَ الثناءُ له بِرَدِّ حياتِهِ لـمّا انطوى، فكأنّه منشورُ

رحمة الله عليك يا جدي، وألحقنا بك في الصالحين، غير خزايا ولا مفتونين.
حفيده
د. ياسر بن عبد العزيز بن عوض اللبيني السلميّ
عضو هيئة التدريس جامعة الملك عبد العزيز

مقالات سابقة للكاتب

14 تعليق على “رحمك الله يا جدي

عبود علي السلمي

رحمه الله و غفر له.
هو كما ذكر حفيده الدكتور /ياسر حقيقة بلا مبالغة لكل من عرفه و عاشره فقد عاش تقيا وفيا صاحب وقفات مشهودة وهو آخر من عرفت من شيباننا الأفذاذ عليهم رحمة الله وفقد الرجال أمثاله حدث جلل ولكنها سنة الحياة، والناس شهود الله في ارضه.
تواصلت مع ابنائه بالتغزية، و حُرمنا من واجب الحضور ، بسبب الجائحة ازالها الله..

Mns

لعلي أنظر إلى صفات جدك رحمه الله تعالى فى برك به وكتاباتك عنه وإنها صفة البر ان شاء الله وصله الرحم ولعلى أقول إن جدك رحمه الله تعالى لم تمت صفاته بل ورث ما أسماه ياسر .
الله يرحمه ويغفر له ان كان ماكتبته فلا خوف عليه بل هو بين يدي ارحم الراحمين غفر الله له وعظم الله أجركم

صالح رشيد السلمى

رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته
الناس شهداء الله في أرضه
منذ أن كنت صبيا حتى وصل عمري ٤٣عاما لم أسمع ولم أرى أحدا يقول بأنه أخطأ في حقي أو ازعلني كان وقورا متواضعا لايهتم لحطام الدنيا كان إذا زار مكة قديما وعاد منها من المستحيل أن يأتي كما يقال ويده فارغة بل كان لابد أن يحضر معه شي يوزعه على جيرانه
ولو خبزا
من مآثره أنه ذات يوم أخذ طلاب القرية إلى رابغ لكي يستخرج لهم صورا فوتوغرافيه مطلوبة للمدرسة
فاستخرجها على حسابه ولما رجع بهم قام بشراء وجبة غداء له ولهم على حسابه وتوقفوا تحت شجرة وتناولوها سويا لم اشهد هذا الموقف ولكن يردده قريب لي عمره ٥٥عاما ومازال الموقف عالقا في ذاكرته
رحمك الله أبا عبدالعزيز

بن فوزان

، رجل ليس عنده حساب في وسائل التواصل، وربما لم يعرف أسماءها، ولكنه عظيم بمعايير الشهامة والإباء والمبادئ والأخلاق.
.. نعم هذه هي العظمة .. وهؤلاء هم العظماء وماذكرت أخي هو ما ينقص الكثير اليوم من أصحاب الشهادات العالية .. رحم الله جدك وجعل الجنة مثواه

الحربي

مثل هؤلاء الرجال لاخوف عليهم ولاهم يحزنون. رحم الله المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

د. حمزة المغربي

رحم الله الشيخ عوض بن منعم السلمي رحمة واسعة و تقبله في عباده الصالحين و جعل مقامه في أعلى علّيين و أسكنه الفردوس الأعلى من الجنّة، و جزاه الله خير الجزاء بما قدّم من أعمال صالحة و خدمات مجتمعية جليلة، و قد عرفته رجلاً شهماً متواضعاً حريصاً على تحقيق النّفع العام و هو من أعلام المحافظة البارزين.
عظم الله أجر كل من أصيب فيه و أحسن الله عزاءهم، و ألهم أهله الصبر و السلوان و إنّا لله و إنّا إليه راجعون.

أحمد بن مهنا الصحفي

رحمه الله وغفر له !، إنا لله وإنا إليه راجعون، أحسن الله عزاءكم (له في القلب منزلة من الحب ملأها الخبر حزنا) رحمه الله.. رحمه الله ، وجمعنابه في جنات النعيم.

حسن أحمد علي النوفاني

رحم الله الشيخ عوض السلمي رحمة واسعةوأسكنه فسيح جناته وألهم أهل الفقيد ومحبية الصبر والسلوان إنا لله وإنا إليه راجعون.
ولا أراكم الله بأساً ولا مكروهاً في أنفسكم وأهلكم ومحبيكم.

حسن أحمد علي النوفاني

يكفي الشيخ فيما نعرف ونعلم أنك حفيده ومن خلال ذكرك ووفاءك ودعاءك له ما يدل على عظمته فرحم الله الشيخ عوض السلمي رحمة واسعةوأسكنه فسيح جناته وألهم أهل الفقيد ومحبية الصبر والسلوان إنا لله وإنا إليه راجعون.
ولا أراكم الله بأساً ولا مكروهاً في أنفسكم وأهلكم ومحبيكم.

أبو عابد

عظم الله أجركم وغفر لجدكم وجعل قبره روضة من رياض الجنة
هذه النماذج لن تتكرر
نماذج مضيئة في حياة البشرية
لم يتلقوا نصيبا كبيرا من التعليم مثلنا
لكن عندهم قلوب أفضل من قلوبنا
وأعمال أفضل من أعمالنا
اللهم إرحم حالنا

بدر السلمي

الله يرحمه ويسكنه فسيح جناته

بدر بن عسكر

رحم الله جدك يادكتور ياسر وغفر له ان العين لتدمع وان القلب ليحزن ولا نقول الا مايرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون ابو عبدالعزيز لم نعرف عنه الا كل خير شيخ يستحق البكاء على فقده .

زائر

رحم الله ابوعبدالعزيز وأسكنه فسيح جناته ..والله انه فقيدة ولكن هذا قضاء الله وقدره

غير معروف

رحم الله الشيخ عوض بن منعم اللبيني رحمة واسعه
كان خطيب وامام قرية السويله واذكر عندما كنت صغيرا
قبل ٥٠ سنه ذهب بنا والدي ومعي اخواني لحضور صلاة العيد وكان الشيخ رحمه الله يخطب بنا وهي أول خطبه اتذكرها واشاهدها والشيخ معروف بصبره وعلمه المتواضع وحلمه وهو يحترم الكبير ويعطف على الصغير
وزاهد في الدنيا وحشيم ويحترمه كافة الناس ولم يوفى حقه لو كتب عنه صفاته نادره في الخلق والتوضع وحب الناس وحل القضايا والمشاكل اللتي تحدث في المنطقه ويختاره الناس لعدالته والانصاف في الحقوق نسأل الله له الرحمه والمغفره
نافع عواض الربيقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *